احتجاجات فرنسا... متظاهرون لا يعرفون الخجل

نشر في 28-10-2010
آخر تحديث 28-10-2010 | 00:01
أعلن ساركوزي أنه لن يسمح للتطويق أو الشغب بـ"شل" البلاد، كذلك لم يقل إنه سيتراجع عن قانون الإصلاح، لأن "واجبه" يحتم عليه ضمان معاشات التقاعد لأجيال المستقبل. فقد أُقر قانون التقاعد فعلياً في مجلس النواب، وصادق عليه مجلس الشيوخ. لذا تأمل الحكومة الفرنسية أن يسأم الفرنسيون الاحتجاج، وينحسر الدعم الذي يلقاه الإضراب.
 إيكونوميست  اعتاد الفرنسيون، الذين سئموا الإضرابات، على أن يعيشوا يوماً واحداً تندر فيه القطارات، ويتغيب الأساتذة، وتتوقف عمليات تسليم البريد وطبع الصحف، ذلك ما يحدث عادةً كلما نظمت اتحادات العمال إضراباً ليوم واحد، كما في 19 أكتوبر، اعتراضاً على رفع السن الأدنى القانونية للتقاعد من 60 إلى 62 سنة. لكن النقص في الوقود، وتطويق مستودعات النفط والمدارس، وقطع الطرقات، وحرق السيارات والعنف المتقطع التي شهدتها البلاد الأسبوع الماضي أمور لم يعتادوها البتة. دفع بالتالي هذا التحول من الاحتجاجات المنظمة إلى التمرد الفوضوي بساركوزي إلى الإصرار على عدم الاستسلام لأشد اختبار حتى الساعة.

كانت الاحتجاجات الروتينية الأسبوع الماضي سلمية بمعظمها، لا بل حتى مهرجانية. نزل ما بين 1.1 و3.5 ملايين شخص إلى الشارع، بمن فيهم قادة الأحزاب الاشتراكية المعارضة، لليوم السادس من الاحتجاجات هذا الخريف ضد قانون إصلاح نظام التقاعد، وقارب هذا العدد المشاركة القياسية في الأسبوع الذي سبق، بالرغم من أن معدل الإضراب انخفض من 40% إلى 30% في قطاع سكك الحديد الوطني، ومن 19% إلى 12% بين الموظفين المدنيين، ومن 18% إلى 15% في شركة كهرباء فرنسا.

لكن انقلاب الوضع بشكل مفاجئ إلى هذا الحد في الأسبوع الماضي لم يكن بسبب المتظاهرين السائرين أو سائقي القطارات المعتصمين، وإنما النقص في الوقود في أنحاء البلاد، فضلاً عن احتجاجات عنيفة مرتجلة، إذ قطع سائقو الشاحنات الطرقات لإعاقة السير، وأغلق طلاب الثانويات الرسمية المدارس، واجتاح المتظاهرون سكك الحديد والمطارات، وراح المخربون يبحثون عن متاعب. كذلك أضرب الأسبوع الماضي العمال في مصافي التكرير الفرنسية الـ12 كافة وطُوّقت مستودعات النفط، الأمر الذي عطل إمدادات الوقود ودفع بالسائقين إلى التهافت على الشراء. بدا إصرار الحكومة الأولي على عدم وجود نقص في الوقود سخيفاً، في وقت كان يتنقل فيه السائقون من محطة إلى أخرى بحثاً عن الوقود، أو ينضمون إلى طوابير طويلة. لكن جان لويس بورلو، وزير البيئة والذي يطمح بالحلول محل فرانسوا كرئيس للوزراء، اعترف أخيراً بأن الوقود نفد من نحو ثلث محطات الوقود في البلاد البالغ عددها 13 ألفاً. عندئذ أمر ساركوزي الشرطة برفع الطوق عن مستودعات النفط والحرص على استئناف التوزيع.

في الوقت عينه، عمد تلامذة المدارس الذين يملكون نقابات خاصة بهم في فرنسا إلى تعطيل الدروس في بعض الثانويات الرسمية الـ379 وإغلاق أبواب البعض الآخر. بالرغم من أن قانون إصلاح نظام التقاعد لم يُمس بشكل مباشر، لكن كثيرين من التلامذة يعتقدون، على ما يبدو، أنهم سيُضطرون إلى انتظار سنتين إضافيتين، في حال عمل من هم في الستين من العمر لسنتين إضافيتين، قبل أن يتمكنوا من وراثة وظائفهم. وما أثار القلق أكثر من الجهل الاقتصادي أن التظاهرات في الثانويات الرسمية غالباً ما استُخدمت من قبل مخربين لتغطية أعمال الشغب التي ارتكبوها. ففي ليون، قام 1300 مخرب، نصفهم ما دون الثامنة عشرة من العمر، بأعمال شغب في المركز التاريخي، عبر إضرام النار في السيارات وقلبها، ونهب المتاجر وتحطيم الملاذات المخصصة لانتظار الباص. هذا ودُمّر مبنى محكمة في نانتير، غرب باريس. أما في لو مانس، فأُحرقت مدرسة للمرحلة المتوسطة حتى سوُيت أرضاً. في المقابل، أعلن ساركوزي أنه لن يسمح للتطويق أو الشغب بـ»شل» البلاد، كذلك لم يقل بأنه سيتراجع عن قانون الإصلاح، لأن «واجبه» يحتم عليه ضمان معاشات التقاعد لأجيال المستقبل. فقد أُقر قانون التقاعد فعلياً في مجلس النواب، وصادق عليه مجلس الشيوخ. لذا تأمل الحكومة الفرنسية أن يسأم الفرنسيون الاحتجاج، وينحسر الدعم الذي يلقاه الإضراب.

ما يشكل صعوبةً بالنسبة إلى ساركوزي أن إصلاح نظام التقاعد أصبح مثالاً للمظالم العامة. فقد حاول هو ووزير البيئة فيلون شرح حاجة فرنسا إلى الحفاظ على مزايا المعاشات للمتقاعدين في المستقبل عبر إطالة فترة العمل. قدم ساركوزي بعض الحجج لاتحادات العمال بشأن تفاصيل قانون الإصلاح، لكنه غير محبوب وغير موثوق، فضلاً عن أنه مقترن بالفكر الشعبي بالثروة والمشاريع الفاخرة، صورة عززتها الهفوات الأخيرة التي ارتكبها فريقه الوزاري: نفقات السيجار الباهظة لأحد الوزراء، واستخدام أحدهم طائرة خاصة، وصراعات مصالح مرتبطة بليليان بيتانكور، وريثة شركة «لوريال» الضخمة صاحبة المليارات. فعبر إبراز التناقض بين مشكلة «العمال» المجبرين على العمل لسنتين إضافيتين وبين حياة النخبة الرغيدة، أثار اليسار بجرأة إحساساً بالظلم إزاء ما يُعتبر إصلاحاً متواضعاً.

وانتقل الاضطراب الذي بثته شاشات التلفزيون الفرنسية في الأسبوع الماضي إلى الرأي العام الذي أبدى دعمه للتظاهرات. وعلى الرغم من أن 67% من المُستطلع أراؤهم قالوا إنهم يدعمون الإضراب والتظاهرات الروتينية، عارض 54% منهم تطويق مصافي تكرير النفط. لذلك تبحث الحكومة عن عرض لتقدمه للاتحادات، لا علاقة له بإصلاح نظام التقاعد، وسيسمح لهم بحفظ ماء الوجه. لكن إن لم تخمد حركة التمرد، فسيجد ساركوزي نفسه في وضع حرج، وستُرجأ خطته لإعادة تنظيم الحكومة بعد الانتهاء من إصلاح نظام التقاعد لفترة أطول.

back to top