أوباما والمشي على الحبل
ذَكَر أحد مسؤولي الخارجية الأميركية أن مفهوم «القوة الذكية»- الدمج الذكي للدبلوماسية والدفاع والتنمية وغير ذلك من أدوات ما قد نطلق عليه القوة «الصارمة» والقوة «الناعمة»، والربط بينها في شبكة واحدة- هو في صميم رؤية إدارة أوباما في السياسة الخارجية، ولكن في الآونة الأخيرة وجدت استراتيجية «القوة الذكية» التي تبناها أوباما نفسها في مواجهة تحد عويص وعنيد يتمثل في الأحداث الجارية في الشرق الأوسط.فإذا فشل أوباما في دعم الحكومات في مصر والبحرين والمملكة العربية السعودية واليمن، فقد يعرض للخطر أهدافاً بالغة الأهمية في السياسة الخارجية، مثل السلام في الشرق الأوسط، أو القاعدة البحرية في الخليج، أو استقرار أسواق النفط، أو التعاون ضد إرهاب تنظيم «القاعدة». ومن ناحية أخرى، إذا اكتفى أوباما بمساندة مثل هذه الحكومات فإنه يستعدي بذلك المجتمع المدني الجديد الذي مكنته ثورة المعلومات في تلك البلدان، وهو ما قد يهدد الاستقرار في الأمد الأبعد.
إن محاولة إيجاد التوازن بين علاقات القوة الصارمة مع الحكومات وبين الدعم الذي توفره القوة الناعمة للديمقراطية أشبه بالمشي على الحبل، والواقع أن إدارة أوباما كانت تتأرجح في محاولة التوفيق بين هذين الهدفين المتعارضين، ولكنها لم تسقط حتى الآن من فوق الحبل.ولأن إدارة أوباما كانت تستخدم مصطلح «القوة الذكية» فإن بعض الناس يتصورون أن هذا المصطلح يشير فقط إلى الولايات المتحدة، ويزعم بعض المنتقدين أنه مجرد شعار، مثل «الحب العنيف» الذي استخدم لتغليف السياسة الخارجية الأميركية بطبقة من السكر. ولكن القوة الذكية لا تقتصر على الولايات المتحدة على الإطلاق. صحيح أن الجمع بين القوة الصارمة والقوة الناعمة يشكل مهمة بالغة الصعوبة بالنسبة إلى العديد من الدول، ولكن هذا لا يجعلها أقل ضرورة.والواقع أن بعض الدول الصغيرة أثبتت براعتها الشديدة في استيعاب وممارسة استراتيجيات القوة الذكية، فقد استثمرت سنغافورة في الدفاع العسكري لكي تضفي على نفسها مظهر الدولة القوية في مواجهة الجيران الذين ترغب في ردعهم، وفي الوقت نفسه نجحت في الجمع بين نهج القوة الصارمة هذا وأنشطة القوة الناعمة الجذابة في إطار رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، فضلاً عن الجهود التي بذلتها لاستخدام جامعاتها كمراكز للأنشطة الإقليمية غير الحكومية.وعلى نحو مماثل استخدمت سويسرا لفترة طويلة الخدمة العسكرية الإلزامية والجغرافيا الجبلية كمصدرين من مصادر القوة الصارمة اللازمة للردع، في حين أكسبت نفسها قدراً عظيماً من الجاذبية في أعين الآخرين من خلال الخدمات المصرفية والتجارية والشبكات الثقافية. ولقد سمحت دولة قطر، الجزيرة الصغيرة الواقعة قبالة ساحل المملكة العربية السعودية، باستخدام أراضيها كمقر لقيادة المؤسسة العسكرية الأميركية في غزو العراق، في حين لعبت دور الراعي لقناة «الجزيرة»، وهي القناة الفضائية الإخبارية الأكثر شهرة في المنطقة، والتي كثيراً ما تعرضت بالانتقاد الشديد للتصرفات الأميركية. كما انضمت النرويج إلى منظمة حلف الشمال الأطلنطي (الناتو) لأغراض دفاعية، ولكنها عملت في الوقت نفسه على وضع سياسات استشرافية فيما يتصل بالمساعدات الإنمائية الخارجية والوساطة من أجل السلام لتعزيز قوتها الناعمة.وتاريخيا، استخدمت الدول الصاعدة استراتيجيات القوة الذكية لتحقيق مستويات جيدة من المنفعة. ففي القرن التاسع عشر عملت بروسيا بزعامة بسمارك على توظيف استراتيجية عسكرية عدوانية لإلحاق الهزيمة بالدنمارك والنمسا وفرنسا في ثلاث حروب أدت إلى توحيد ألمانيا، ولكن بمجرد تحقق هذا الهدف لبسمارك، بدأ بتركيز جهود الدبلوماسية الألمانية على خلق التحالفات مع الجيران وتحويل برلين إلى مركز للدبلوماسية الأوروبية وحل الصراعات. وكان من بين أعظم الأخطاء التي ارتكبها القيصر فيلهلم الثاني بعد عقدين من الزمان أنه أقال بسمارك، وفشل في تجديد «معاهدة إعادة التأمين» مع روسيا، ودخل مع بريطانيا في منافسة على السيادة البحرية في أعالي البحار. وبعد فترة «إحياء» ميجي التي بدأت في 1867-1868، عملت اليابان الصاعدة على بناء القوة العسكرية التي مكنتها من إلحاق الهزيمة بروسيا في عام 1905، ولكنها تبنت أيضاً سياسة دبلوماسية قائمة على التصالح في التعامل مع بريطانيا والولايات المتحدة، وأنفقت قدراً كبيراً من الموارد لكي تجعل نفسها جذابة في الخارج. وبعد فشل مخططها الاستعماري الذي أطلقت عليه الازدهار المشترك لشرق آسيا في ثلاثينيات القرن العشرين (والذي اشتمل على أحد مكونات القوة الناعمة والذي تمثل في الدعاية المناهضة لأوروبا) وهزيمتها في الحرب العالمية الثانية، تحولت اليابان إلى استراتيجية تجسدت في تقليص قوتها العسكرية والاعتماد على التحالف العسكري مع الولايات المتحدة. والواقع أن تركيز اليابان بكل إصرار على النمو الاقتصادي حقق الهدف منه، ولكن القدر الذي حققته الدولة من القوة العسكرية والقوة الناعمة كان متواضعا.في عقودها الأولى تمكنت الصين الشيوعية من بناء قوتها العسكرية واستخدمت في الوقت نفسه القوة الناعمة التي تمثلت في عقيدة ماو تسي تونغ المتجسدة في الثورة والتضامن مع العالم الثالث لزراعة الحلفاء في الخارج، ولكن بعد استنفاد استراتيجية ماو في سبعينيات القرن العشرين، تحول حكام الصين باتجاه آليات السوق لتعزيز التنمية الاقتصادية. ولقد حَذَّر دينغ شياو بينغ مواطنيه من الخوض في مغامرات خارجية قد تعرض التنمية الداخلية للخطر.في عام 2007 تحدث الرئيس الصيني هيو غينتاو عن أهمية الاستثمار في قوة الصين الناعمة، وفي ضوء صعود القوة الاقتصادية والعسكرية للصين، نستطيع أن نؤكد أن ذلك كان قراراً حكيماً، فمن خلال الجمع بين القوة الصارمة المتنامية والجهود الرامية إلى تعزيز جاذبيتها، كانت الصين تسعى إلى اجتثاث مخاوف جيرانها والميل إلى موازنة القوة الصينية.وفي عام 2009 كانت الصين تشعر بالفخر عن حق لنجاحها في الخروج من الركود العالمي وقد حققت معدل نمو اقتصادي مرتفعاً، ولقد استقر في أذهان العديد من الصينيين تصور خاطئ مفاده أن هذا يشكل تحولاً في توازن القوى العالمية، وأن الولايات المتحدة كانت في انحدار.ولكن مثل هذا السرد قد يؤدي إلى الصراع، بل إن فرط الثقة بتقييم قوتها قاد الصين إلى سلوك أكثر جزماً في التعامل مع السياسة الخارجية في القسم الأخير من عام 2009 وفي عام 2010. والواقع أن الصين أخطأت في حساباتها عندما انحرفت عن الاستراتيجية الذكية المتمثلة في القوة الصاعدة وخالفت نصيحة دينغ بأن الصين لابد أن تتقدم بحذر وأن «تحرص ببراعة على الابتعاد عن الأضواء». وبعد أن واجه قادة الصين الانتقادات الدولية وتدهور العلاقات مع الولايات المتحدة واليابان والهند وبلدان أخرى، قرروا العودة إلى استراتيجية القوة الذكية التي تبناها دينغ في الماضي.لذا ففي ضوء النضال الذي تخوضه إدارة أوباما لتنفيذ استراتيجية القوة الناعمة في ظل ظروف الثورات الحالية في الشرق الأوسط، يجدر بنا أن ننتبه إلى أن الولايات المتحدة ليست وحدها في مواجهة المصاعب المتمثلة في محاولة الجمع بين القوة الصارمة والقوة الناعمة بنجاح. إن القوة الذكية تشكل استراتيجية بالغة الأهمية لإحراز النجاح في عالم السياسة الدولية، ولكن لا أحد يستطيع أن يدعي أن المهمة ستكون سهلة.* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye ، مساعد وزير الدفاع الأسبق في الولايات المتحدة، وأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «مستقبل القوة».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»