الزمان: التاسع من الشهر المنصرم (أكتوبر 2010).

Ad

المكان: مدينة نيويورك، حيث حلّ أدونيس زائراً.

الحدث: شعر، قلق، تزاحم كواكب، فتاة تستظل بتمائمها، وضفائر مرسَلة إلى أقصى مدى.

....

هو كما في شعره أينما حل تُثار مكامن اللؤلؤ، ويخرج الأريج من مخبئه. إذن كان متوقعاً أن نقرأ هذا النص البديع «يوميات رحلة إلى عالم أميركا» في الحياة اللندنية بعد الزيارة الأخيرة لأدونيس. كان شيئاً أشبه بالشعر ولكنه رمال متحركة أينما وطأت، يقفز القلق طفلاً وديعاً، يداعب بأصابعه ياقة قميصك.

لم تكن الزيارة الأولى لأدونيس إلى أميركا، ولكنه قبل ذلك زار نيويورك سنة 1971 وكتب قصيدته الشهيرة «قبر من أجل نيويورك»، سعدي يوسف كذلك زار نيويورك وكتب ديوان «قصائد نيويورك». جاءت نصوص الشاعرين بلغة أقرب إلى الوضوح يتخللها شيء من الدهشة المفاجئة، أو الصورة خارج أفق التوقع. هل هي الحالة النيويوركية- إن صحت التسمية- تهدينا هذه النصوص؟ هل هي وحشية السياسة، والتوسّع عبر حاملات الطائرات، أم هي الملاهي الليلية، وأزقة «هارلم» ومحطات مترو الأنفاق؟ أو لعله عالم المال والأعمال؟

قبل وصوله إلى نيويورك حمل أدونيس الهم ذاته، وعبر المحيطات، ليحضن في هدوء ودَعة التنين النائم، وعالم الصين المُلغز، كان ذلك قبل أربعة أشهر خلت، استُقبل بحفاوة قد تفوق حفاوة نيويورك. تُرجمت قصائده إلى الصينية. نفدت الطبعة المترجمة خلال شهر واحد، وعاد حاملاً معه جائزة «زونغ كون» المرموقة. جاء في حيثيات الجائزة أنها «منحت تتويجاً لمكانة أدونيس الشعرية العالمية، ولتأثيره في الشعر الصيني المعاصر». أنتجت الرحلة مقالاً بديعاً كتبه أدونيس في حينها.

يبدو أدونيس متلبساً بالقلق، ومُشبعاً بالسفر نحو المجهول، ذلك بالضبط ما شعرت به حين قرأت مقاله الأخير في الحياة اللندنية (11/11/2010) وبرأيي أن المقال/ القصيدة بحاجة إلى مزيد من الوقت لفك رموزه. يقول:

«لا أدري لماذا قلقت هذه المرة. القلق يفوق المخيّلة في التوهم. المخيلة اغتراب والقلق اضطراب. تغرق حواسي كلها في ماء التوهم. ماذا يحدث في هذا المسار الفضائي بين باريس وآن آربر؟ (...) القلق الذي زارني في الطائرة أمس، وغاب عندما هبطت يعود الآن في زيارة ثانية. يلامسني كأنه يد موصولة بيد السماء».

قد يكون الطريق مضنياً حين نبحث عن موانئ للقلق، أو موطأ قدم لتوثب الروح. إنها الروح الشاعرة، تبلغ الثمانين، فتعيش حلم الثلاثين المترع بالدهشة والانكشاف، ولذّة الغموض. تبدو نيويورك مدهشة في عيني شاعر عاش شطراً من حياته في باريس، وشتان بين المدينتين. جاء أدونيس حاملاً معه دعَة باريس وأضواءها، وتثاؤب مقاهيها، والأكبر من ذلك عراقة هذه المدينة وكلاسيكية وجدانها.

أينما حل أدونيس تجد اللغة المفارِقة والشعر، والتاريخ والتصوف، وكذا الفهم المغاير للنصوص والدين والحياة.

يكتب أدونيس بالضبط كما يتحدث، ويلمَح الأشياء ببصيرة طفل يقفز نحو الدهشة. مسكون بالمكان: دمشق، بيروت، القاهرة، بروكسل، الجزائر، بغداد، الدوحة. كلها أماكن احتضنته حيناً، واحتضنها شعراً. نتجول في خارطة المكان، ولكننا لن نبرح دمشق حين يكون الحديث بلغة الانغماس والتوحد والتلذّذ. دمشق اللذة وقميص النوم. يحملها معه أينما حلّ. يقول:

«ولا أعرف أن أجيب عن هذا السؤال: كيف يتحول البعد عن دمشق إلى قميص نوم آخر في ميتشيغان».

هل تكون الرحلة إلى نيويورك الأخيرة كما يقول أدونيس في عنوان مقاله، أم تتبعها رحلات إلى أماكن أخرى؟ وبالطبع نصوص وقصائد ومقالات. المدن الكبيرة تهبنا ربّما المال، والأضواء والنسوة الفاتنات، ولكننا بالتأكيد نحن من يهبها الحياة.