«وحدهم الأطفال والنساء والمجانين... كانوا مع الشعر»، هذه شهادة الشاعر الظاهرة نزار قباني، وهي شهادة موثّقة لدى الدوائر الرسمية، وفي محاضر الشرطة، والمناهج الدراسية، وفي الساحات العامة، وعلى أوراق الشجر الذي لا يسقط خريفاً.

Ad

هو قال (في ما معناه) أن رجال الدين والعلمانيين ضد الشعر، والمحافظين والتقدميين ضده، والفلاسفة والعلماء كانوا على حد سواء ضده أيضاً، فلم يتبقَّ من القائمة سوى الأطفال والنساء والمجانين الذين تسحرهم أضواء الكلمات الملونة ويذهلهم دويها في الفضاء، ويقفون مشدوهين لرؤية ذلك، معتقدين أنهم أمام كرنفال ألعاب نارية تنظمه الطبيعة!

وهم الوحيدون الذين يتسابقون على رائحة بخور الكلمات، وعلى السقيا من مياهها العذبة، وهم فقط الذين يركضون عراةً في غاباتها، ويقفون تحت مطرها الغزير بلا مظلة، ويمشون على جمرها حفاة الأقدام، ويمرّرون حد سيوفها الحادّة على شفاه قلوبهم، ويتركون المساحة الأكبر لها فوق أسرّتهم وعلى وسائدهم، وأعتقد أن هؤلاء (الأطفال والنساء والمجانين) يقفون مع الشعر كل لأسبابه الخاصة، الأطفال لأن خطوات براءتهم ونقاء قلوبهم تقودهم بالفطرة إلى كل ما هو صادق بجماله، وجميل بصدقه، النساء لأنهن يعشقن الحلي والمجوهرات لتكمل زينتهن، وليس هناك ما هو أغلى ولا أحلى من الشعر احتفاءً بأنوثتهن، المجانين لأن الشعر يشبههم، فهم يرون صورتهم الإيجابية فيه!

ما عدا هؤلاء، فإن بقية البشر يقفون ضد الشعر وإن بمسافات مختلفة، البعض يقف ضده من المهد إلى اللحد، البعض الآخر يسايره بعض الوقت ثم ينقلب ضده، وهؤلاء هم منافقوه الذين تقتضي مصالحهم الذاتية أن يهادنوه ليسترزقوا «عاطفياً» من ورائه، وحين تنقضي مصالحهم ينقلبون ضده!

الجديد والمفاجئ الذي قد يحرق عظام نزار في قبره، هو أن يكون الشعراء ضد الشعر! إذ لا تبرير منطقياً، ولا تفسير لموقف هؤلاء، وهم في الحقيقة أشدّ خطراً من البقيّة، لأنهم يحاربون الشعر باسم الشعر وتحت رايته، يمثّلون به بحجة المحافظة عليه، يصلبون نوره على بوابات الصباح بدعوى إزاحة الغيوم عن شموسه، يقطّعون أطرافه بزعم مساعدته على الحركة السليمة، الشعراء التقليديون يحاربون الشعر الحديث، والحداثيون يحاربون التقليدي، وشعراء الفصحى ينظرون بدونية إلى الشعر العامي، وشعراء العامية يقهقهون سخريةً من برج القش الذي يتربّع فوقه الشعر الفصيح، الكل يغمد سيفه ويمضي حرابه في جزء من جسد الشعر بغية التخلص منه، لأنه وبعقلية الطبيب الفذّ رأى أن هذا الجزء فاسد وجب التخلص منه.

أما أطرف (ولا أريد أن أقول أغبى) ما سمعت، فقد تفوّه به شاعر شاب من خرّيجي مسرح الراحة خلال لقاء تلفزيوني له، قال إنه ضد شعر الغزل إذا قاله شاعر سبعيني مثلاً! ثم استرخى على كرسيّه الوثير كأنما أخرج من شفتيه قبساً سيستنير به الشعر من بعده!

تخيلوا شاعراً يرى أن الغزل والحب وظيفة توجب على الشاعر أن يتقاعد منها عند سن معينة، ليقف في الطابور أمام بوابة مصلحة التقاعد أو التأمينات الاجتماعية ليصرفوا له مقابل خدمته العاطفية الطويلة!