أيها السادة: افهموها جيدا... لقد دارت العجلة وقضي الأمر، فلا «جزيرة» حركتها ولا «عربية» تستطيع إخفاء صوتها، مهما ضخموا في الصغيرة أو قزموا في الكبيرة، فمصر هي التي تقول لا هم أو غيرهم؛ لأن إرادة الشعوب دائما أقوى وأضخم من الأنظمة. المزاج العربي كله مصري، والنكهة الوحيدة المطلوبة هي مصر، الوجبات الثلاث كلها مصر، أما الحلوى فهي شباب مصر الذين رسموا في دفاتر التاريخ الحديث ثورة جديدة بلا راية غير راية التغيير؛ وبلا سلاح غير سلاح الكلمة؛ وبلا أيديولوجيا غير أيديولوجيا الصرخة والنكتة والغنوة والتكبيرة والقصيدة والأهزوجة والقدّاس وتحشيشة أحمد فؤاد نجم، والنوم في العراء تحت ظلال فوهات البنادق.

Ad

الكل يسأل ما الذي حدث؟ الجواب: جوع بقرب جوع، ويأس فوق يأس، ومر أنجب «أمرار»، ومظلمة بكت على صدر مظلمة، ذلك البركان الذي احتقن بهدوء أسفل المحروسة حتى أتى زمان الطائر الأزرق الذي وفق بين الرؤوس وقرّب المسافات بين الهلال والصليب، فحلّق تحت الشمس وغرّد محذرا ملايين المرات لآذان لا تسمع؛ وقلوب لا تخشع؛ وعقول لا تقنع، وفي الخامس والعشرين وقع ما كان يجب أن يقع، وسيحدث قريبا ما لا ينفع معه ترغيب أو ترهيب.

لا تحاولوا بث خبر مثير هنا أو تلقوا بقطعة لحم هناك، لا تمضغوا علكة علكتها أمم لعنتموها من قبل، ولا تعجنوا الأراجيف مع الطحين المدعوم، فالناس توقفت عن أكل «العيش» المغشوش، لا تبتذلوا أنفسكم بدس سيقان «زهرة وأزلامها الخمسة»، بين الجماهير الغاضبة، لا فالرغبات اختزلت في التغيير، والشهوات روضت لبناء الوطن الجديد، لقد انتهى الدرس يا عبقري!

هذه الأيام نقولها بطعم مختلف «سبحان مغير الأحوال» أين الأهلي والزمالك؟ وأين ذهبت «خناقات» المقاهي؟ وأين ريال مدريد وبرشلونة؟ وأين ذهب ميسي وكريستيانو؟ الجميع يتابع مباراة «الجزيرة» و»العربية» و»ديربي» الـ»بي بي سي» والـ»سي إن إن»، وعندما تهفو النفس للبسمة الخفيفة تقلب الأصابع جثامين التلفزيونات الرسمية وقنوات الأذناب الحكومية، وتهزأ بأباطيلها وتدون قوائم أسماء عارها.

أيها السادة: افهموها جيدا... لقد دارت العجلة وقضي الأمر، فلا «جزيرة» حركتها ولا «عربية» تستطيع إخفاء صوتها، مهما ضخموا في الصغيرة أو قزموا في الكبيرة، فمصر هي التي تقول لا هم أو غيرهم؛ لأن إرادة الشعوب دائما أقوى وأضخم من الأنظمة، والوقت الذي أهدر حتى ضاقت الصدور بما كان يسعها وأكثر قبل أشهر قليلة، درس يجب أن تتعلم منه بعض الأنظمة العربية، خصوصاً «المجنونة» منها، لذلك لا بد من إطلاق الحريات، وتعزيز المشاركة الشعبية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة على أساس المواطنة، ومحاربة الفساد ورعاية الطبقات المسحوقة، حتى تردم الفجوة بين الشعب والسلطة الحاكمة، فالإصلاحات الصغيرة المقبولة اليوم على نطاق واسع خير من القفزات المتلاحقة المرفوضة غدا.

أختم بالقول هذا زمن عربي خاص قد يختلف من مكان إلى آخر، ولكن من المؤكد أن العالم العربي قبل البوعزيزي ليس هو العالم العربي بعده.

الفقرة الأخيرة: حياتنا باتت خبراً عاجلاً، وشريط أخبار سفلياً، وبثاً مباشراً، وترقبوا الخطاب بعد قليل، ومؤتمرا صحافيا، ومراسلنا يقول من واشنطن، ومراسلتنا تعرضت للضرب والتكسير، وشهود عيان يقولون إن الحشد وصل إلى خمسة ملايين، وشهود عيان آخرون يقولون الحشد لم يتجاوز خمسة آلاف نفر، وخيول و»بعارين» يركبها «بلطجية» السلطان قانصوه الغوري يقتحمون شوارع القاهرة، وأخيراً نحن بانتظار هجوم الفيلة التي ستجلب من الحبشة لدك الخيم المنصوبة في ميدان التحرير.