لعل أجمل ما ابتدأت به سنة 2011 افتتاحها بفيلم «رسائل بحر» للمخرج القدير داوود عبد السيد، الذي هو بالفعل من المخرجين العرب المتميزين بأعمالهم السينمائية المحلية العالمية.

Ad

وبالرغم من قلة أعماله، لكنها كلها أعمال متميزة خطت مكانتها في تاريخ ووجدان السينما العربية، حتى وإن سار داوود في دربه على مهل فإن خطواته جاءت كلها متمكنة من فكرتها وهدفها وأدواتها.

داوود يحمل فكراً سينمائياً يعكس فلسفته ونظرته إلى الحياة من منظورها السياسي والاجتماعي والأخلاقي وانعكاسه على الفرد فيها سواء كان انعكاساً سلبياً أو إيجابياً.

ولا يمكن فصل فكر داوود ونظرته إلى الحياة والعالم عن عمله، فلسفته في الحياة ورؤيته لها تنعكس تماماً على أفلامه التي حين أشاهدها يتجسد لي داوود من خلالها، فهو في الحياة لا يختلف عن مضمون أفلامه.

إنسان جاد جداً صادق ذو أخلاق عالية تنعكس على عمله وتعامله.

وفي رأيي أنه لا يمكن فصل الأخلاق عن الفن، وقد أكد لي المبدع الكبير يحيى حقي هذه الحقيقة، حتى وإن كان هناك الكثير من الفنانين الذين لا يوجد أي رابط بين فنهم وأخلاقهم التي تكون في الحضيض، وأعمالهم متميزة.

ومع ذلك يبقى الفن في أساسه حالة جادة جداً وعملاً محتاجاً إلى الجد والإخلاص والتفرغ، وهذا الشرط بدوره يفرض الجدية التي لا تستقيم ولا تتوافر إلا بالأخلاق.

ويأتي فيلمه الأخير رسائل بحر ليحمل لنا كل هذا النستالجي لعالم ولإيقاع بتنا نفتقده في لهاث هذه الحياة السريع، الحامل لكل قلق العصر ولهاثنا فيه ولأشياء كثيرة في حياتنا غابت، مثل هذه العلاقات الحميمة التي تربطنا بأصدقاء أو بمكان ما، أو حتى جدران لمنزل قديم يمثل للروح إحساساً أصيلاً.

لكل هذه الأمكنة القديمة التي حملت إحساس وروح وهوية وطابع من شيدها ومن بناها ومن عاش فيها، هذه العمارات القديمة التي لم يعد هناك ما يمثلها ولا ما يماثل من عاش فيها، بألوانها وتيجانها وبالكورنيث المزين لأعمدتها وبشموخها القديم الذي حيته كاميرا داوود عبد السيد بكل حنان وحنين يستحقه زمنها وذكريات من عاش فيها.

كاميرات داوود رسمت لوحات للبحر ومدينة الإسكندرية، مشاهد هادئة، متأملة، رائقة وصافية في عذوبتها وجمال تشكيلها وحركتها، لأنها بالفعل لوحات تشكيلية ممتعة للبصر، خصوصا تلك التي صورت البحر في كل حالاته، وحياة البارات والحارات.

وقد ساعد رتم إيقاع الفيلم الهادئ وتقطيع المشاهد المشحون بالتأمل والسكينة، في فرض الراحة والإحساس بالنعومة في التلقي والاستمتاع به بهدوء واسترخاء بعيداً عن الإحساس بالشد وبالتوتر الذي بات سمة مفروضة على المشاهد في غالبية الأفلام العربية والأميركية بالطبع، ونستثني منها الأفلام الفرنسية والانكليزية التي تمتاز بالإيقاع الهادئ.

رسم المشاهد كان في غاية الرقي، بحيث إنه يؤثر على حواس المشاهد كلها، ليس فقط السمع والبصر فيها، إنه إحساس أكبر من التفسير، يدفع إلى التساؤل عن سببه وماهيته، هل هي الجماليات الناضجة والمتكاملة التي تحمل رؤية وفكراً وفلسفة إنسانية في مضمونها الوجودي؟ أم أنه الحس الرهيف المهموم بالناس وبأوجاعهم وبكل ما يطرأ على هذا الكون من تغيرات وتحولات قوية صعبة على الهضم والاستيعاب؟

فلم رسائل بحر من الأفلام الرومانسية بجدارة ولا أعني فيها تلك التي تدور حول قصص الحب البليدة وبطئها الممل، لكن المقصود برومانسية هذا الفيلم هو الإحساس الناعم الذي يبثه في المشاهد وحالة الشجن التي تجتاحه من أجواء حركة الكاميرا، وما تبثه وترشه من سحر على وجدان المتلقي حيث تنقله وتضعه في المكان والشعور الذي تريده وتقوده بخفية إليه.

داوود عبد السيد فنان مثقف تنعكس ثقافته على أفلامه التي يكتبها ويخرجها ويختار أبطالها بدقة عالية، كما أنه يحسن اختيار طاقم العمل كله ومنه الموسيقي المبدع رجح داوود، وهو ابن عمه ورفيقه المصاحب في كل أفلامه، ومنها هذا الفيلم المتميز في اختيار موسيقاه.

فتحية للفنان والصديق المبدع داوود عبد السيد على هذا الفيلم الذي هو بحق واحة واستراحة للروح وللإحساس وللعين، وآه من هذا الشجن الذي عرف الفيلم كيف يحركه ويثيره ويأت به من منبته.