كل الرؤساء العرب لا يحبون الموسيقى الجدية، باستثناء السلطان قابوس على حد معرفتي. وهو أمر لا عيب فيه، ولا يتطلب الأمر من زعيم سياسي أن يشغل قلبه وعقله بالموسيقى. فله قدوة بأكثرية المثقفين العرب الذين لا يرون جدوى من هذا العنت في ملاحقة الإيقاع واللحن والهارموني في الصوت، من أجل مزاعم في إغناء الروح والعقل. إلا أن القذافي ينفرد عن الجميع باحتقاره للموسيقى الكلاسيكية. ولقد أنجز في الثمانينيات فعلاً لم يجرؤ عليه أحد من قبله، على عادته، ولا أحد من بعده. لقد أصدر أمراً للشعب الليبي بأن يُخرج أي آلة موسيقية غربية في حوزته، إلى الساحات العامة، من أجل محرقة عامة. فهي في نظره رُسل تخريب تسعى إلى هدم ما ظل يحاوله من استنارة عبر كتابه الأخضر. ولقد خرجت إلى الساحات العامة أثمن آلات البيانو التي خلفها الإيطاليون، هكذا أتخيل. فهي وحدها التي لا يمكن حملها بيسر إلى الخارج. وكذلك أجمل الآلات الموسيقية الأخرى التي ألفتها الطبقة الوسطى، والتي كانت تنمو ناشطة في البناء، في عهد الاستقلال وبناء الدولة الدستورية.

Ad

أخرجها الناس بدافع الخوف، لا دافع الاستجابة لعسكري أحمق. وكأني بعملية الإحراق لا تعدو استلاباً لآخر تنهدات الروح المتعافية التي تبقت للشعب المقموع.

الدكتاتور يرتاب من الطريقة غير المرئية التي تُربي فيها الموسيقى الكلاسيكية روحَ الكائن الأعزل. فهي توسع بالتجريد الصوتي العجيب من أفق الكائن الإنساني بالقدر الذي يبدو فيه أمام السلطة القمعية عصياً على أن تتصرف معه كشيء. الدكتاتور يرتاب، ويدفعه ارتيابه إلى هاجس أن الموسيقى الجدية لابد أن تكون ملغومة بالأسرار، وأن الغرب المتآمر عليه، يمكن أن يتسرب عبر آلاته الموسيقية المستوردة.

كانت سياسة الروسي ستالين لا تختلف في النوع، بل في الدرجة. حين طلعت ثورة أكتوبر على الناس، كانت ملامحها مزدانة بكل تطلعات وأنشطة الحركات الطليعية في كل الفنون. تطلعات الشبيبة التي كانت تسعى إلى حياة جديدة. إلا أن الثورة ما إن تمكنت من نفسها، ومن التاريخ، حتى أعلنت ارتيابها من كل هذه الأنشطة، بدعوى أنها أنشطة إن لم تكن وافدة من الغرب الرأسمالي، فهي عميلة ذات فاعلية له.

كان الموسيقي الكبير شوستاكوفتس المذعور (علناً) مثار ذعر حقيقي، ولكن (مستور) للدكتاتور ستالين. حتى أن الأخير هاجم بنفسه وبقلمه إحدى أوبرات الأول في صحيفة الحزب، باسم مُستعار طبعاً. ولم يعتمد تكليف أحد مرتزقة «الواقعية الاشتراكية» بمهاجمته.

أحسب أن الأمر تم مع العقيد الثوري كحلقة من حلقات معجزة ثورته الثقافية، التي حاكى فيها ثورة ماو الثقافية التي سبقته في الصين. تلك الثورة التي عبرت عن ارتياعها من الموسيقى، موسيقى الغرب الامبريالي، بحرق الآلة الموسيقية وتدمير عشاقها. ولم أعد أذكر عنوان أكثر الأفلام السينمائية الصينية التي أُنتجت في هونغ كونغ تأثيراً حول ما حدث خلال الثورة الثقافية لأستاذ ومدرسة معنية بالعزف على آلة الفايولين.

المهم أن تلك الآلات الحزينة التي أُحرقت في الساحات الليبية العامة شاءت لها ثورة الليبيين الجليلة اليوم أن تنتقم بصورة لا يمكن أن تتلاشى من أذن مستمع ومشاهد. أغنية طلعت علينا في الإنترنت، على أثر خطاب القذافي سيئ الصيت، والذي يُعلن فيه قراره بمطاردة شعبه المحتج «دار دار، بيت بيت، زنقة زنقة، حارة حارة...».

الأغنية ذات لحن شبابي راقص، يبدو فيها القذافي بارع الأداء في الغناء والحركة، بصحبة الكورس الطرِب، وآلات الإيقاع واللحن الموسيقية، وهي في غمرة مسرة ملاحقتها الانتقامية المضادة للجلاد الذي فرض على الناس إحراقها ذات يوم.

الأغنية اليوم شائعة في اليوتيوب لمن يرغب.