* مرة أخرى تثبت إيران أن التمسك باستقلالية القرار السياسي والصبر الاستراتيجي والثبات في الموقف والمثابرة في الدفاع عن المبادئ وثقافة المقاومة يثمر «تخصيباً ووقوداً وطاقة نووية» على الأرض!

Ad

وهذا الكلام لم يعد اليوم مجرد دعاية أيديولوجية ولا عرضاً نظرياً مجرداً ولا رؤى رغبوية لطالما اتُّهمنا بها كلما أشرنا إليها في أوقات سابقة!

فها هو ما يسمى بالمجتمع الدولي يقبل حتى ولو على مضض إيران عضواً جديداً رسمياً في النادي النووي الدولي، والأهم من ذلك يذعن ولو مستنكفاً بأن لا حل لمشكلاته أو خلافاته مع إيران إلا بالتحلق حول طاولة حوار لا شروط مسبقة فيها!

بالعودة قليلاً إلى الوراء فقط يمكنكم التذكر كيف أن أبرز وزراء خارجية الدول الغربية الكبرى اجتمعوا، بضوء أميركي أخضر طبعاً، في قصر سعد آباد شمال طهران، وكيف استطاعوا في لحظة غفلة أو ضعف أن يقتنصوا منها في وقتها قراراً لوقف التخصيب مدة ما يقارب العام ونصف العام– في حقبة الرئيس السابق محمد خاتمي- مقابل قبولها عضواً «طبيعياً» في معادلة «المجتمع الدولي» المزعوم، ظناً منهم أن ذلك من شأنه أن يوقف قرار طهران الاستراتيجي الحازم بضرورة تشكيل الدورة النووية الكاملة مهما كلف ذلك من ثمن!

لقد ضيع الغربيون الفرصة بأنفسهم بالطبع عندما ظنوا للحظة أن بإمكانهم أن «يطفئوا» شعلة الدورة النووية الإيرانية، كما يطفئ أحدهم كعب سيجارته، كما عبر أحد الموفدين الغربيين في دورة مفاوضات لاحقة لذلك الاجتماع الشهير الآنف الذكر, ظناً منهم أن إيران رضخت تماماً لشروط التبعية الغربية. لكن الأمر سرعان ما تغير واستعادت إيران زمام المبادرة بالصبر الاستراتيجي والثبات على المبادئ والمثابرة في التفاوض الطويل النفس والمزج بين الحزم السياسي والحنكة الدبلوماسية, إلى أن أكملت دورتها النووية كاملة كما هي عليه اليوم.

إن ضخ الوقود النووي في قلب مفاعل بوشهر لأجل إنتاج الكهرباء بواسطة الطاقة الذرية, مع احتفاظ إيران بحقها المبدئي في تخصيب اليورانيوم الذي تكفله لها اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية الموقعة عليها منذ أكثر من ثلاثة عقود, ومن ثم رفعها لهذه التقنية إلى درجة التخصيب بنسبة عشرين في المئة، وهو ما تكفله لها نفس الاتفاقية، وإعلانها الصريح والواضح والشفاف أنها ستستمر في إنتاج الوقود النووي عبر عملية التخصيب العالي والتحضير لبناء عشر محطات نووية أخرى تشبه محطة بوشهر, لا يمكن وصفه إلا كما سبق ووصفناه أكثر من مرة بأنه القرار الأكثر أهمية وخطورة من قرار تأميم النفط الشهير الذي اتخذته طهران في زمن حكومة الراحل محمد مصدق الوطنية في بداية خمسينيات القرن الماضي!

كيف؟ ببساطة ووضوح لأن إيران ما بعد الحادي والعشرين من أغسطس 2010 هي غير إيران ما قبل الحادي والعشرين من أغسطس 2010... وإليكم الشرح المختصر الآتي:

- إن ما يسمى بالمجتمع الدولي فشل فشلاً ذريعاً في اللعب على وتر ما يسمى بخطورة وانحرافية المشروع النووي الإيراني نحو التسلح الذي كان يهدف عملياً إلى مقايضة إيران بقبولها «عضواً عادياً» ومقبولاً في هذا المجتمع مقابل تخليها عن الطاقة البديلة، أي إقفال محطة بوشهر سلماً أو تعطيلها حرباً من خلال الأداة الصهيونية, لكن ذلك يذهب اليوم أدراج الرياح مع افتتاح هذه المحطة رسمياً، بعد أن عطلت إيران كل الذرائع الغربية في هذا السياق، وأنهكت روسيا في سباق الصبر الاستراتيجي، مما أحرجها فأخرجها من سياق المماطلة، وكذلك المقايضة التي لطالما كانت السبب في تأخير لحظة انطلاق منشأة بوشهر!

- إن ما يسمى بالمجتمع الدولي أذعن كذلك، ولو بالإكراه، بأن ما هو حق لإيران في التخصيب بالنسبة التي تريد من أجل سد حاجتها الداخلية من الوقود النووي لصناعة الطاقة البديلة أصبح أمراً واقعاً، وأنه لم يعد منطقياً مطالبة إيران بالتراجع عنه في أي مفاوضات مستقبلية من الآن فصاعداً, لأن الحاجة إليه أصبحت جزءاً من قاعدة العرض والطلب التجارية تماماً، كما هي حاجة أي مستهلك- وهو إيران في هذا السياق- لأي مصدر وهو روسيا في هذه الحالة، والتي ليس بينها وبين إيران سوى مذكرة تفاهم لتأمين الوقود النووي مدة ثلاث سنوات، وهو أمر غير ملزم لإيران قانونياً بأن تبقى تشتري هذا الوقود منها مدة ستين عاماً، وهو العمر المفيد لهذه المنشأة!

- إن ما يسمى بتجارة القرن الحادي والعشرين التي كانت تعول واشنطن عليها كثيراً, ألا وهي بيع الوقود النووي للعالم انطلاقاً من قهر الحالة الإيرانية وتركيعها للقبول بالولايات المتحدة، مصدراً أساسياً إن لم يكن وحيداً لشراء هذا الوقود اللازم لصناعة الكهرباء الذري، تكون قد سقطت أيضاً, ما يعني خسارة كبرى تقدر بنحو أربعة تريليونات دولار سنوياً، إذا حسبنا الفارق بين سعر الميغاوات الواحد من الطاقة الكهربائية المنتج من النفط أو الغاز، والذي يكلف بين خمسة وسبعة سنتات أميركية، وذلك المنتج بواسطة الطاقة الذرية الذي يلامس السنت الواحد فقط, إضافة إلى محاسبة سعر النفط أو الغاز كما تريد أن تتحكم فيه واشنطن بالسياسة!

استناداً إلى ما تقدم نستطيع أن نفهم اليوم سبب الغضب والحنق الصهيوني، ومن ثم الأميركي لأن ما حدث سيشكل عملياً سابقة خطيرة جداً بالنسبة إلى سائر الدول المستقلة والأخرى الساعية نحو التحرر من التبعية للسياسات الأميركية الخاصة منها بالسياسة كما بالاقتصاد!

في المقابل نستطيع أن نفهم الآن أيضاً لماذا كان ولايزال المفاوض الإيراني يصر على ما كان يسميه بحزمة المقترحات الإيرانية مقابل حزمة المقترحات الغربية, ذلك أن المعركة بالنسبة إلى صاحب القرار الإيراني لم تكن يوماً من أجل فتح محطة بوشهر للطاقة الكهربائية لوحدها, بقدر ما كانت ولاتزال الدفاع عن استحقاق الدول المستقلة في تأميم أو توطين التكنولوجيا النووية لأجل تحرير القرار السياسي من التبعية لمعادلة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية غربها وشرقها، وهي المعادلة التي باتت تتحكم فيها المصالح الصهيونية العليا للأسف الشديد.

وعليه، فإن انطلاق محطة بوشهر الذرية اليوم وما حملته من معان مشار إليها آنفاً سيرمي بظلاله بقوة على مفاوضات طهران مع ما يسمى بمجموعة فيينا المرتقبة، وكذلك على المفاوضات المرتقبة أيضاً مع مجموعة «5+1», إضافة إلى المناكفات والمشاغبات والشد والجذب الإيراني الأميركي بشأن الملفات الإقليمية الساخنة من فلسطين مروراً بلبنان ووصولاً إلى العراق الذي وصل إلى محطته الخريفية من حيث غروب شمس الاحتلال الأميركي وأفول نجمه!

* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي الإيراني