يمضي شهر رمضان محملاً بالخيرات، ويأتي غيره، يطل "العيد" برأسه ليملأ الأرض فرحاً وسروراً وبهجة، لكن قضية البحث عن وطن ستبقى مستمرة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فرحلة "البدون" بدأت تزحف منذ عقود إلى أن تدحرجت يوماً بعد آخر حتى أصيبت بالشيخوخة التي أفقدت أبناء هذه الفئة كل معنى أو طعم للحياة!

Ad

فتلك السنوات الطويلة لم ترحم ذلك الطاعن في السن رغم أمنياته وأحلامه اليومية بغد مشرق ينتشل أبناءه من مصيرهم المجهول، إذ كان يجد في ظلمة الليل ستاراً لدموعه التي تنهمر ولاتزال على ماضٍ صعب، وحاضر مر، ومستقبل مجهول، ولم تكن تلك المرأة المسنة المتشحة بسواد الهموم والآهات بحال أفضل من ذاك العجوز، فقد كانت تتوسل إلى الباري عز وجل والدموع تسبق دعاءها بإزالة هذه الغمة التي دفنت أجيالاً متتالية ووأدت أطفالاً بعمر الزهور لا لذنب اقترفوه أو جريمة ارتكبوها، بل لأنهم خرجوا لهذه الدنيا وهم "بدون"!

ويا لها من معصية، فهذه السيدة تبحث عن بارقة أمل لإعادة الروح إليها عبر فرحة ولو كانت لأيام قليلة بتوفير الأمان والسكينة لأبنائها من أجل حياة كريمة، لكن الواقع الذي يعيشه "البدون" شيء آخر، بل هو مختلف عن كل تلك الأحلام التي تحولت إلى كوابيس مزعجة، خصوصا أن الأيام تمر كجري السحاب، والأنين المصحوب بِهمٍّ بحجم الجبال يزداد من منزل إلى آخر، ومن طفل إلى آخر، ومن شاب حُرم من العمل والدراسة إلى آخر، فما أصعب الركض خلف السراب!

ارتباط الدم بالأرض أغلى وأكبر بكثير من ارتباط الإنسان بوثيقة، وإن كانت محل فخر واعتزاز لأي إنسان، فمن الصعب جداً تجريد أي إنسان من مشاعره وحبه لوطنه حتى ولو لم يعترف به أمام العالم من خلال وثيقة رسمية، خصوصاً إذا كان هذا الشخص لم يعرف بيتاً غير هذا البيت، ولم يعشق بقعة في الدنيا غير هذه الأرض، ولم يتنفس غير هواء هذا البحر الجميل، فمخطئ من يعتقد أن البدون لا كرامة لهم، أو أنهم مجردون من الأحاسيس والمشاعر، ومخطئ أيضاً من يرى في "البدون" شماعة تعلق عليها الكثير من سلبيات مجتمعنا، نعم هناك حالات فردية وأمثلة سيئة، لكنها بالتأكيد كأي فئة في المجتمع أو في أي دولة أخرى، لا يمكن تعميمها على عشرات الآلاف من الناس!

قضية "البدون" وإن كانت قد أُشبعت بحوثاً ودراسات وندوات وتصريحات ولعباً بمشاعر آلاف البشر على مدى عقود، سواء من الحكومة أو من بعض أعضاء مجلس الأمة الذين تكسبوا بما يكفي من معاناة أبناء "البدون"، فإنها قضية إنسانية بالدرجة الأولى، ويجب النظر إليها من هذا الجانب كخطوة أولية نحو حل المشكلة جذرياً، ويكفي سنوات الحرمان التي عاشها "البدون" جيلاً بعد جيل، والتساؤل الذي يتبادر إلى الذهن: أما آن الأوان لهم للعيش بشيء من الكرامة والتقدير؟ ألم يحن الوقت لإدخال البهجة إلى نفوس الشباب والأطفال الذين حرموا من أبسط حقوقهم الإنسانية؟!

الحياة جميلة وتَسَع الجميع، و"البدون" ثقلهم على الأرض وليس على رؤوس بعض المعارضين لحقوقهم الآدمية، كما أن رزقهم على الله وليس بيد أحد من الناس، فيجب أن يعي البعض ويدرك أن "البدون" وإن لم يحصلوا على وثائق تثبت انتماءهم إلى هذا الوطن الغالي، مرتبطون به بكل الحب والوفاء، من خلال ذكريات الطفولة والمراهقة ورحلة العمر التي بدأت وستنتهي على هذه الأرض.