قال لي صاحبي: (رحم الله جدتي... كانت ترمي كل شيء على الحسد وعلى العين التي لم تصلِّ على النبي، فكل حادثة، مصيبة، كارثة، بلية تحل علينا أو على غيرنا، مهما كانت أسبابها ومهما بانت ظروفها، سببها الحسد والناس الحساد الذين يحيطون بنا من كل جانب... كفانا الله شرهم ووقانا منه!

Ad

وما زلت أذكرها رغم مرور عشرات السنين وهي تتحدث مع جارة من جاراتنا كانت تشكو لها عنوسة بناتها اللواتي لم يطرق بابهن أحد، رغم أن أصغرهن قد جاوزت الخامسة والعشرين من عمرها في زمن كانت تتزوج فيه الفتاة في الخامسة عشرة والسادسة عشرة، ولا يبدو أن هناك أي أمل في عريس قادم، وكان تحليل جدتي للمشكلة برمتها أن جارتنا وبناتها مستهدفات من الحساد الذين ما فتئوا يضربونهم بعيونهم الحارة، فيقفون حائلاً بينهن وبين حظهن السعيد في العرسان الذين عليهم القيمة، وهم فلانة وفلانة وفلانة، واللواتي بالطبع كن ممن تكرههن جدتي كثيراً! وكانت النصيحة... أن تذهب إلى الشيخ "أبو مصعب" حماه الله، والذي يسكن غير بعيد منا، فعنده الحل الناجع لمثل هذه المشاكل، وقد أخذت جارتنا بنصيحة جدتي وذهبت إليه، وبذل الرجل ما في وسعه لطرد الحسد والعين التي أصابت الجارة وبناتها، ولم ينفع ذلك كثيراً، وعلى حد علمي، فإن واحدة فقط هي التي تزوجت بعد طول انتظار، وبقيت اثنتان على ما هما عليه، رغم جهود الشيخ "أبو مصعب" العظيمة والتي يشكر عليها في مقاتلة حسادهما من الإنس والجن!

وكنت صغيراً حينها، في العاشرة ربما، فقلت لجدتي ببراءة شيطان صغير بعد مغادرة جارتنا: "من صجها هاذي؟!... منو الخبل اللي بيتزوج بناتها المعفنين؟!"، فما أتممت سؤالي حتى رأيت حذاءً منطلقاً بسرعة الصاروخ متجهاً بدقة إلى جبهتي، وهي دقة في التصويب عودتني جدتي عليها في كل مرة تغضب فيها مني! وقد صاحب حذاءها الصاروخي بعضُ اللعنات التي أمطرتني بها مسافة السكة إلى جبهتي، وذلك لـ "لقافتي" وقلة أدبي، رحم الله جدتي... فقد كنت طفلها المدلل والأثير من بين جميع أحفادها!

وما لم تقله جدتي لجارتنا، أن عنوسة بناتها معقولة جداً، قياساً على الظروف التي يعشنها، فبخل الأب، وسلاطة لسان الأم، و"صياعة" الإخوة، وقبل هذا وذاك، دمامتهن الشديدة التي بلغت حداً لم أره في حياتي، لدرجة أنني حين شاهدت "أبو عنتر" في التلفزيون لأول مرة، تساءلت أين شاهدت هذا الوجه من قبل؟! حتى تذكرت الملامح المسمسمة لبنت جارتنا الوسطى!

وكنت... برغم صغر سني، منطقياً جداً حين قلت لجدتي ما قلت، وفقاً للأسباب التي ذكرتها والتي تمنع أي أحد من أن يكمل نصف دينه بالزواج من بنت من بنات جارتنا العزيزة، لكن جدتي رحمها الله كانت مصرة على أنهن مستهدفات من الحساد الذين عملوا "العمايل والهوايل" كي تصل جارتنا وبناتها إلى هذا الوضع العنوسي المزري!).

وبالأمس... شاهدت برنامجاً دينياً لأحد الشيوخ في التلفزيون يعرض في فترة ما قبل الإفطار، وكان مما قاله، وأعاده مرة بعد مرة، أن شباب الأمة العربية والإسلامية "مستهدف.. ومحسود" من العالم بأسره! وأن المؤامرات تحاك كل يوم لإضعاف همم هؤلاء الشباب، وأن الآخرين في هذا الكون الواسع لا همَّ لهم سوى القضاء عليهم! وقد ختم كلامه لبقية الأمم "الحاسدة" لنا بأن... "موتوا بغيظكم"!

وحاولت - قدر المستطاع- أن أجد شيئاً واحداً نُحسد عليه، وسبباً واحداً يجعل العالم كله يستهدف شبابنا المسلم، فلم أجد أبداً، ومعذرة على ذلك، فهذا الشباب المسلم المحسود والمستهدف، تقول الإحصاءات المختلفة إنه الأكثر فقراً وأمية على مستوى العالم، والأكثر كسلاً وجهلاً، والأقل إبداعاً وإنتاجاً، فلا هو يأكل مما يزرع، ولا هو يلبس مما يصنع، وليس له أي إسهام حقيقي في الثورة العلمية والتقنية التي يعيشها العالم الآن، وفوق هذا وذاك، يعاني الاضطهاد أينما ولّى وجهه، والكبت حيثما وُجد، مواهبه تطمس، وطاقاته تهدر، ولسانه يقطع، ويده تشل، ورأيه يسفه، وفكره يقمع، وعقله مكبل بألف قيد من قيود العيب والممنوع والحرام، وما يجوز وما لا يجوز، ويحيط به الفساد السياسي والمجتمعي والديني من كل جانب، دون أن يملك قدرة على التغيير، أي أن وضعه يدعو إلى الشفقة والبكاء عليه وعلى حظه الهباب، لا حسده واستهدافه، فما الذي لديه "يا حسرة" كي يُستَهدف من الآخرين؟!

أظن أن شيخنا "الفضائي" هذا - ومثله كثير- لا يختلف كثيراً في فكره ونظرته عن جدة صاحبي المؤمنة بالحسد والعين التي تصيب حتى المتردية والنطيحة، ولو كان الله قد أطال في عمرها ولحقت بزمن الفضائيات التي فتحت أبوابها لكل عباقرة الزمان، لربما وجدناها تطل علينا في برنامج من برامج ما قبل الإفطار لتنشر إبداعاتها الفكرية، فما عند بعضهم، صدقوني... لا يفترق كثيراً عما عندها!