أم أيوب: دار الضيافة تحمل روح عبدالله السالم وسمات الكرم الأصيل

نشر في 16-08-2010 | 00:01
آخر تحديث 16-08-2010 | 00:01
No Image Caption
معلم شاهد على أصالة البناء القديم
بيوت قديمة من عشرينيات القرن الماضي ما زالت موجودة في منطقة شرق، ومن هذه البيوت دار الضيافة الخاص بالمغفور له الشيخ عبدالله السالم. يقع المنزل في ساحة ترابية مهجورة في منطقة شرق، استدللنا على المنزل عن طريق شجرة السدرة "النيشان"، فلا وجود للحياة إلا في تلك السدرة التي بقيت صامدة بفضل القاطنين في ذلك المنزل، وصلنا إلى هناك وكلنا شوق إلى رؤية المنزل من الداخل، لا نخفيكم سراً أن وصولنا الى هناك كان أشبه بمغامرة بعد ان خيم الظلام على المنطقة، اضاءة خافتة جاءت من منزل المسنة "أم أيوب" استقبلتنا بابتسامة امتزجت بنظرات حرجة، متسائلة عن سبب الزيارة، وما ان اخبرناها عن السبب قامت بالترحيب بنا اشد ترحيب  لنبدأ بعدها جولتنا في ذلك المنزل الأثري.

أبواب المنزل

في البداية ادهشتنا ابواب المنزل الخشبية التي مازالت على حالها، وهي من الطراز القديم البحت، فمن الغريب ان ام ايوب لم تستبدلها بأبواب حديثة أكثر أماناً من تلك الأبواب القديمة، خصوصاً انها تسكن وحيدة في منطقة معزولة. فتحت لنا الباب وهي تردد "بسم الله" وتهلل ونحن نردد من ورائها، ما ان دخلنا المنزل شممنا رائحة عطرة اختلطت بعبير الماضي، فقد كان اعتناء تلك المرأة المسنة بالمنزل واضحاً، وكيف لا وهو يعتبر منزلها منذ ما يقارب الستين عاماً، آثرنا التجوال ليستوقفنا سقف المنزل المصنوع من "الجندل" و"الباسجيل"، فقد بدا حديثاً وكأنه قد شيد بالأمس فلم تعريه قسوة السنين ولا الزمن، كما هو الحال مع حيطان المنزل التي بدورها شيدت بطريقة مبهرة ولم تتغير هي الأخرى وبقيت صامدة حتى يومنا هذا، إضافة إلى آثار "دروب الكندري" التي حفرت على واحد من تلك الحيطان بجانب محول الكهرباء، جاءت جميعها شاهدة على تلك الحقبة الجميلة من الزمن.

مررنا بـ"الليوان" وهو الممر باللهجة الكويتية، لتبدأ بعدها ام ايوب فتح أبواب الغرف الخاصة بالمنزل التي كانت وما زالت محتفظة بطابعها التراثي القديم، من السقف تدلت "بنكة هندية" قديمة لتبرد على أهل المنزل قيض الصيف. وفي وسط الجدار "روشنة"، وهي عبارة عن خزانة محفورة في الحائط كانت تضع فيها النساء أدوات الزينة الخاصة بهن وغيرها من الأشياء، إضافة إلى مفاتيح الكهرباء القديمة التي جاءت بارزة بأسلاك موصولة بالسقف، وعدد من "الدرايش" المصنوعة من الخشب، تسمح بدخول أشعة الشمس إلى الغرف وتهويتها.

أوراق ثبوتية

وفي الحوش "جولة" قديمة ومجموعة من "الجدور" بأحجام مختلفة، فعلى الرغم من بساطة أم أيوب وشح حالها لكنها مضيافة من الدرجة الأولى، فكثيراً ما تعد الطعام للمحتاجين والأصدقاء، فمنزل عبدالله السالم، رحمة الله عليه، بيت خير بحسب ما جاءت به أم أيوب، مؤكدة أن المغفور له كان مضيافاً، ويحسن إلى الفقراء والمحتاجين، ففي رمضان كان يحرص رحمة الله عليه على تقديم موائد الإفطار إلى المارة أمام دار الضيافة، إضافة إلى دعوة أهل الكويت الكرام إلى قصر المسيلة العامر لتناول وجبة الفطور معه، مما يؤكد مدى تواصل حكام الكويت مع الشعب آنذاك.

وفي نهاية جولتنا جلسنا مع أم أيوب في الخارج لتحكي لنا قصتها مع هذا المنزل، ولتجيبنا عن بعض الأسئلة التي بالفعل كنا نبحث لها عن إجابات، في البداية أكدت لنا أنها ولدت في فريج بو قماز، وعند بلوغها الرابعة عشرة تزوجت أبو أيوب، رحمة الله عليه، وقد عقد قرانهما في المحكمة الشرقية آنذاك، ورزقت منه بأيوب، زاول زوجها مهنة الغوص، كما عمل في وزارة الكهرباء والماء، ومن ثم عمل في شركة نفط الكويت. وعن حصولها على الموافقة من المغفور له الشيخ عبدالله السالم على العيش في دار الضيافة، اكدت ام ايوب، كما اكد جميع من يعرف قصتها، قائلة: "اعتدت رؤية المغفور له في سيارته يومياً اثناء ذهابه إلى قصر السيف، وفي يوم من الأيام رأيت الشيخ من بعيد فذهبت نحو سيارته مسرعة ليتوقف "الدريول"، ويبادرني بالسؤال عن طلبي فأجبته قائلة: ابي اكلم الشيخ... صباح الخير يا طويل العمر، فأجابني أنا ومن معي من النساء: صباح الخير يا خواتي... صباح الخير يا بناتي، فناشدته قائلة: يا طويل العمر انا ما عندي بيت وابي بيت وما عندي ادفع اجار، فرد رحمة الله عليه قائلاً: روحي قعدي بهذا البيت وعيشي في طول العمر"، وكان يقصد رحمة الله عليه دار الضيافة الخاص به مشيرة إلى انها كانت على ثقة بأن المغفور له سيساعدها هي وزوجها، لما عرف عنه من كرم وحب لمساعدة المحتاجين، مؤكدة أنها تسلمت في ما بعد ورقة تثبت إقرارا من الشيخ عبدالله السالم بالسماح لها بالسكن في المنزل، وعن تلك الأوراق اكدت ام ايوب أنها كانت موجودة معها، وكل من حولها يؤكدون ذلك، لكنها سرقت خلال تفتيش الجنود العراقيين منزلها خلال فترة الغزو، اضافة إلى عقد زواجها ومجموعة من الأوراق الثبوتية.

أم صباح

التقينا أم صباح وهي امرأة كويتية في العقد السادس من العمر، كان لها الفضل في مساعدة ام ايوب مادياً ومعنوياً هي ومن معها من أهل الخير، في بداية حديثها لـ"الجريدة" أكدت ام صباح أن "دار الضيافة" بني في العشرينيات، وكان للمغفور له الشيخ عبدالله السالم، ومن ثم أصبح للورثة، مشيرة إلى ان أم ايوب عاشت في المنزل ما يقارب الستين عاماً، وذلك بأمر من المغفور له الشيخ عبدالله السالم، قائلة: "الله يرحمه ما قصر خل الحجية أم ايوب تقعد في هالبيت مع زوجها ومثل ما انتوا شايفين البيت عتيج ومبني من صخر البحر والطين بس رب العالمين حافظه لأنه هالمرة المسكينة عايشة فيه"، مؤكدة أن ام ايوب من مواليد الكويت لكنها إلى يومنا هذا لم تحصل على الجنسية، مطالبة الحكومة بأن تنظر في قضيتها، وتحميها من خطر إزالة المنزل "يا ريت حكومتنا ما تهدم هالبيت، واطالب بحق ام ايوب بالجنسية على الأقل عشان تقدر اتعالج بالمستشفى الأميري يا حسرة جدام عيونها ومهي قادرة توصله على قولة فريد الأطرش (قدام عنيه وبعيد عليه) واللي توهم متجنسين طاقين الريشه، وأم ايوب تاريخ الكويت كله عاصرته من أيام عبدالله السالم وعبدالله الجابر حسرة عليها البنَدول؟!!... املنا بحكومتنا كبير انها ترأف بحالها ويبقى هالبيت وما يهدمونه".

البيوت الكويتية القديمة

إن من عاصروا فترة ما قبل اكتشاف النفط يلاحظون لأول وهلة أمرين، الأول أن بيوت الكويت قد بنيت دون تخطيط او تنظيم، مع مراعاة حقوق الجار في البناء، إلا ان بعض البيوت جاء متداخلاً مع بعض، فكانت متلاصقة تؤدي اليها طرقات ملتوية ومتعرجة (سكيك) بسبب أن تخطيط البناء وتنظيمه لم يكن لهما مفهوم في ذلك الوقت، ولم يكن هناك دور للأجهزة الرسمية الخاصة بالتخطيط والتنظيم مثل وقتنا الحاضر، فتلك الأجهزة لم تكن موجودة ولم تعرف في المنطقة.

والأمر الثاني لوجود بيوت الكويت بهذا التلاصق والتراكم هو الأسباب التي تدعو قاطنيها إلى الشعور بالأمن والاستقرار، لأن عدد السكان كان قليلاً ولكون المنطقة في تلك الفترة مشحونة بمنازعات القبائل وقطاع الطرق، فكانت المدن الصغيرة لا تسلم من شر هذه الاعتداءات، ولهذا الأمر بنيت البيوت بهذا التقارب والتلاصق لإشعار المجتمع بتماسكه واتحاده.

إن ما يميز هذه المدينة بأحيائها الرئيسية الثلاثة، القبلة والشرق والمرقاب، هو أن تصميم بنائها من ناحية الشكل العام الخارجي قد اتخذ الطابع العربي البحت، ورغم بساطته فإنه كان عالي البناء، مع انه من دور واحد، وحجرات البيت تكون متناثرة حول فناء مكشوف واسع (الحوش) كما ان معظم هذه البيوت لديها اسطح فوق (الدور) ومحاطة بسياج من البناء العالي بارتفاع قامة الرجل يفصله عن الاسطح المجاورة، والملاحظة الأخرى ان قليلا من البيوت التي فيها مجالس (دواوين) تكون لها مداخل منفصلة عن مدخل "حرم البيت". ان هذه الامور جاءت لأسباب اجتماعية بحتة نظرا إلى تقاليد المجتمع وشدة تحفظه ولصيانة حرمة البيت. صممت بيوت الكويت في الماضي لمقاومة الظروف الطبيعية القاسية، حيث لم تكن في تلك الفترة هناك وسائل التبريد أو التدفئة الحديثة، وإن وجدت في الخارج، فالكهرباء لم تكن موجودة اصلا، وقد ادخلت الى الكويت في فترة قريبة بعد اكتشاف النفط، لذا فإن تصميم البيت الكويتي وبناءه جاءا مناسبين للتغلب على تلك الظروف الصعبة، فمثلا يكون ارتفاع جدران البيت لفائدة انعكاس كمية وافرة من الظل إلى الداخل، كما كانت حجراته حول فناء مكشوف، يطلق عليه (الحوش) ويعتبر متنفسا لمزاولة النساء اعمالهن ولمرح الاطفال ولعبهم، هذا الفناء الواسع يساعد على التهوية وتسلل الشمس بدخولها إلى البيت، اضف الى ذلك الأهم وهو لأن مواد البناء كانت من الطين والصخر وباعتبارها مواد غير ممتصة للحرارة، فإن البيت الكويتي يكون في فصل الصيف بارداً نسبياً، خلافا للبيت في وقتنا الحاضر الذي يتم تشييده وبناؤه من الاسمنت المسلح والحديد الذي لا يطاق دخوله في حال انقطاع التبريد.

تميزت البيوت قديما بأن أغلبية مواد بنائها كانت مستمدة من الطبيعة، سواء كان ذلك من البر أو من البحر عدا بعض الاشياء الأخرى، كالخشب الذي يستورد من الخارج، ومنه "الجندل" و"الباسجيل" اللذان يستخدمان لتسقيف "الدور" وانواع الخشب التي تستخدم لنجارة الابواب والشبابيك التي تزخرف بأشكال هندسية جميلة جدا بأيد كويتية ماهرة، اما البناءون فهم محليون من سكان الكويت، توارثوا هذه المهنة أبا عن جد، وكانت هناك مدارس تخرج منه البناءون، وليس القصد هنا المدارس بمفهومها في الوقت الحاضر، بل بمعنى وجود شخص ماهر في الحرفة، يتدرب ويتخرج على يديه هؤلاء.

 الجندل والباسجيل

لا يُستغنى في تسقيف البيوت الكويتية القديمة في الماضي عن "الجندل" و"الباسجيل"، والنوعان عبارة عن نوعية خاصة من الأخشاب تستورد من سواحل شرق إفريقيا.

"الجندل" هو ما يعرف بجذوع شجر المنجروف ويصل طول "الجندلة" الواحدة الى ما يقارب من ثلاثة امتار، ويعتبر من الاخشاب القوية التي تتحمل البناء، ولزيادة قوة المقاومة يطلى بمادة زيتية سوداء مقاومة لدودة الخشب التي تعرف (بالأرضة)، أما "الباسجيل" فهو عبارة عن شرائح من الخشب تؤخذ من شجر "البامبو" وتكون مرنة وسهلة الثني.

في الماضي كانت السفن الكويتية الخشبية العملاقة تبحر الى شواطئ شرق إفريقيا للتجارة وتشحن للكويت في رحلة العودة كميات كبيرة من الاخشاب من بينها "الجندل". ولقد برع البناؤون الكويتيون في الماضي في استخدام هاتين المادتين في البناء بطرق فنية وهندسية جميلة فـ"الباسجيل" يصف على شكل طولي ثم يأتي فوقه "الجندل" على شكل متقاطر مما يعطي لأسقف الحجر (الدور) اشكالا غاية في الجمال.

بالإضافة ألى "الباسجيل" و"الجندل" فهناك مواد أخرى توضع فوقهما لمنع تسرب مياه الأمطار الى الداخل، فيوضع نوع من الحصران السميكة تعرف بـ"المناقير" او باصطلاح آخر "البواري" ثم توضع نوعية من الطين وتعرف باسم "الطين الصلبي" وفوقه طبقة من "الرماد" ثم طبقة أخرى من "الطين الصلبي" فيكون السطح متماسكا يمنع تسرب المطر. وعموما فإن الأسطح الكويتية القديمة تكون على اشكال مائلة نحو فناء المنزل (الحوش) لمنع تجمع مياه المطر بوسط السطح فتتسرب الى داخل "الدور".

تجدر الإشارة إلى ان خشب "الباسجيل" كان يستخدمه هواة صيد الطيور (الحبال) في صنع "الصلابة" وهي إحدى الأدوات الشعبية القديمة الخاصة بالصيد وسبق شرح طريقتها.

«جولة» أُم «كلاص»

في ماضي الكويت لم تستخدم الأمهات والجدات الوسائل المتطورة في طهي الطعام، ولم يتوافر لديهن إلا الوسائل البسيطة كالخشب الذي عُرِف بـ"القرم"، والشجيرات الصغيرة الجافة التي كانت تُجلَب من البر وعُرِفت باسم "العرفج"، وأيضاً روث الإبل الجاف الذي عرف بـ"اليله" فتلك المواد استُخدِمت كوقود لطهي الأكل... وكان طعم الأكل في الماضي لا يضاهيه طعام آخر في وقتنا الحاضر، وذلك لنكهته الطيبة وطعمه اللذيذ.

ولكن لابد من الإشارة إلى ما ينتج عند اشتعال هذه المحروقات من روائح خانقة وتطاير ذراتها الناعمة (السنون) في أرجاء المطبخ فتلتصق على جدران مطابخ البيوت الكويتية القديمة فيصبح لونها أسود.

مع بداية عام 1900 دخلت إلى الكويت "الجول" التي تعمل بواسطة الكاز (الجاز)، وأول الأنواع التي عرفتها الكويت هي "جولة" عرفت باسم "أم كلاص" بسبب أن لها رقبة تشبه شكل "الكلاص". إن تلك النوعية تعد من أقوى أنواع "الجول" التي وصلت إلى الكويت، في ما بعد، وهي مصنوعة كلها من الحديد الصلب، كما أن وزنها ثقيل جداً، وبعد مرحلة من دخول النوعية الأولى بدأ دخول أنواع أخرى تباعا أكثر تطوراً وأخف وزناً ولها أكثر من "عين" لوضع عدة قدور عليها.

back to top