البابا شنودة... راهب الصحراء الصامد بين فكَّي «الغضب والنظام»!
يبدو الرجل مُحاصراً للوهلة الأولى، فبابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية عادة لا يخرج سالماً من بين فكَّي الأسد في مصر، الرأي العام المتعصِّب قبطياً وإسلامياً، والنظام. إن أرضى الأوائل غضب عليه الأواخر، فمن أي باب إذن يعبر البابا شنودة، أكبر رمز ديني للمسيحيين، محنة زعيم الأقلية. نظير جيد المولود في محافظة أسيوط يوم 3 أغسطس 1923، عاش متأرجحاً دائماً بين تناقضين، وعدة أسماء، هو نفسه القس أنطونيوس السرياني، والأنبا شنودة أسقف عام التعليم والمعاهد الدينية، قبل أن تختاره العناية الإلهية البطريرك الـ 117 في 31 أكتوبر 1971، ولتحسم بذلك معركة خاضها الرجل مع نفسه بين حياة الوحدة والسكون في البرية، وحياة الخدمة للشعب القبطي، فقد رسم قساً تحت إلحاح آبائه الروحيين، وبكى حين اختير للأسقفية سنة 1958، إلا أنه صار أول أسقف للتعليم بعد ذلك بأربعة أعوام فقط، ليعيش جدلاً بين خيارين دائماً، كأنه قدر محتوم.
في حياته العملية تمتع البابا إذن بنجاح مثالي، حصل على ليسانس الآداب عام 1947، والتحق بالكلية الحربية وتخرج الأول على دفعته عام 1948، وقبل تخرجه من كلية الآداب التحق بالكلية الإكليريكية وتخرج منها عام 1949 بترتيب متقدم على دفعته وبتقدير ممتاز، ثم خدم في مدارس "الأحد"، واختير مديراً لتحرير مجلتها، وأصبح عضواً بنقابة الصحافيين. رغم ذلك، كثيراً ما كان يشتاق إلى حياة التوحد، فيعتكف في "قلاية" بالدير (غرفة يتعلم فيها الرهبان حياة الشظف) حيث مرت عليه الأسابيع في الصحراء من دون أن يرى وجهاً آدمياً، كخلوة إيمانية، لكن سرعان ما كان يعود إلى خدمة الشعب القبطي، وخلال سنوات قليلة في الستينيات أصبح معلماً كنسياً محبوباً، دون أن يفتقد الحنين إلى حياة الرهبنة والعزلة.الرجل الذي تراه أغلبية مسلمة يستخدم الشريعة الإسلامية حين تنصفه ويلفظها عندما تمس أصلاً من أصول العقيدة المسيحية، على نحو ما رآه البعض من تناقض بين مواقفه من المشاكل الطائفية الأخيرة، تراه نخبة مثقفة وجهاً من وجوه تمرير التوريث بإعلانه وبعض مساعديه عدم الاعتراض على "توريث" الحكم في مصر، هو الرجل نفسه الذي يبكي أحياناً في عظاته حزناً على ما يحدث للأقباط من اضطهاد، رافضاً اللجوء إلى قوى خارجية، مفضلاً أن يهدئ روع أتباعه، بعد كل اعتداء طائفي يُقتل فيه مسيحيون، على نحو ما حدث أمام كنيسة نجع حمادي (صعيد مصر)، حينما قتل ثلاثة أشقياء 6 أقباط ومسلماً واحداً، عشية الاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية حسب التوقيت الشرقي في أوائل يناير الماضي، وهو ما تكرر خلال العقود السابقة بدرجات متفاوتة. يعرف البابا شنودة كيف ومتى يضبط عقارب ساعته على شعارات الوطنية المصرية، فقد رفض صلاة الأقباط في القدس رغم ضغوط الرئيس أنور السادات، بطل معاهدة "كامب ديفيد"، وقال كلمته الشهيرة "لن نصلي في القدس إلا مع إخوتنا المسلمين"، مما أدى إلى تدهور العلاقة مع السادات، الذي أصدر قراراً رئاسياً بعزله وتشكيل لجنة عليا لإدارة شؤون الكنيسة، متجاهلاً حق الأقباط في الاحتفاظ برمزهم الروحي على رأس كنيستهم، خصوصاً أن البابا في العقيدة المسيحية لا تختاره سوى العناية الإلهية.لا يبدو غريباً إذن أن يقبل البابا تقديم الاعتذار إلى المسلمين في إحدى قنوات التليفزيون الرسمي، بل يقول مستعدون لـ"ترضيتهم"، ثم يعود في اليوم التالي ليقول في قناة "الحياة" الخاصة إنه لم يعتذر، بل "تأسف" لجرح مشاعر المسلمين، مما فُهم على أنه تشكيك من أحد مساعديه في بعض آيات القرآن. لا يبدو ذلك غريباً، على رجل استطاع أن يقود شعبه وسط هذه الصحراء، أن يرضي شعباً يزداد فيه المتعصبون، في الوقت الذي يرضي فيه دولة تقول المادة الثانية من دستورها إن "مبادئ العقيدة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع".