اتصلت بي مستفسرة عن أنجح السبل لنشر مجموعتها القصصية الأولى، ولقد كان واضحاً تلك الثقة الكامنة خلف نبرة صوتها الشبابية. شرحتُ لها طرق النشر داخل وخارج الكويت، مبدياً كل استعدادي للمساعدة حيثما أمكنني، وقبل أن ننهي المكاملة بادرت تسألني:

Ad

«ممكن تقرأ القصص؟».

كنتُ أنتظر عرضها، وبودّ قلت:

«سأكون سعيداً بالاطلاع على تجربة قصصية شبابية جديدة».

وصلتني المجموعة عبر الإيميل، ورحت أتنقل بين أجواء قصصها، وبعد بضعة أيام اتصلت، لتقف على رأيي في مجموعتها. ولأنني لا أرى إمكانية لمجاملة إنسانية على حساب الشروط الفنية للعمل الأدبي، ولأني أدرك أن حكم القارئ لا يرحم أحداً، وأن الإصدار الأول لأي كاتب هو جواز مروره إلى جمهور القراء، رحت أبيّن صراحة موقفي النقدي من بناء وحبكة ولغة ورؤية كل قصة، متنقلاً بين الشروط الفنية الضرورية للقصة القصيرة الناجحة. وختمت حديثي مؤكداً:

«هذا رأيي الشخصي بقناعاتي، وهو غير ملزمٍ لأي كاتب سواي».

لكني أدركت أن شيئاً من الضيق مسَّ محدثتي، فقالت بصوت عاتب:

«عرضتُ مجموعتي على أكثر من كاتب، ولقد امتدحها الجميع وأوصى بنشرها».

وترددت هي لثوان قبل أن تُكمل:

«شروطك قاسية، وقد تكون مبالغاً فيها».

أعدت عليها قولي: رأيي غير ملزم، وأنا أتكلم بناء على خبرة وفهم شخصيين لشروط فن القصة القصيرة. وتحاورني قالت:

«لا أدري لماذا تهتم كثيراً بالتفريق بين الزمان والمكان اللحظيين، وبين أزمان وأمكنة الحكاية».

استوقفني اعتراضها، وطالت بنا المكالمة، حول هذه النقطة تحديداً، وبيّنت لها، انني كنت واضحاً في أكثر من مقال حول اعتراضي على وجود ما يُسمى بـ»الراوي العليم»، الذي يتولى سرد النص القصصي أو الروائي، مخترقاً كل الحُجب النفسية والزمانية والمكانية، وشارحاً ومقدماً ما لا يمكن شرحه أو تقديمه. وأنني أعتقد أن أي حدث، بما في ذلك الأحداث التخيلية، أو أحداث الخيال العلمي، يستوجب بالضرورة زمناً ومكاناً لحظيين لانعقاده. وثمة تابع ما يربطه بأزمان الحكاية ومكانها وحوادثها. وإن مرد قناعتي هو أن زمن القص وصوت الراوي، بأي ضمير يأتي، ينبعان ويتأثران بمكان الحدث اللحظي، وأن لحظات أو أيام أو سنين أو عقود، تفصلهما عن أزمان الحكاية، التي تأتي عبر آلية التذكر، وأن خلطاً بينهما أو تجاهلاً لأيٍ منهما إنما يعدّ تقصيراً فنياً في بناء القصة القصيرة.

أرسلت لي محدثتي الشابة بعد أيام إحدى قصصها، بعد أن أعادت كتابتها بصيغة التفريق بين زمن القص وأزمان الحكاية، وحين اتصلت بي كررت عليها، قبل أي شيء، أن ملاحظاتي غير ملزمة، لكنها قالت:

«أرى أن قصتي اختلفت».

بقيت ساكتاً انتظر بقية الجملة، التي سرعان ما باحت بها القاصة الشابة:

«أظنها جاءت بنكهة جديدة ومقنعة».

فرحت بجملتها، ولها قلت:

«نعيش زمن الشباب العربي، فكيف يُنسى عنصر الزمن في الكتابة؟».