ما وراء الظاهر، الذي تطمع البصيرة في بضع ومضات منه، يطمع فيه المتصوفة. «قلب الأشياء» هذا، كما يسميه شوبنهاور، هو الذي تقدر عليه الموسيقى وحدها، من دون الفنون جميعاً. شوبنهاور يضيف إليه الفعل الجنسي، بعد أن اكتشف في هذا فعلاً ميتافيزيقياً (شأن الموت)، لأن الإنسان إنما يُخلق نتيجة هذا الفعل. في الفعل الجنسي، وليد الحب، يغفل الإنسانُ ذاتَه، ويختبر الوحدة مع الآخر. هذا الفعل، على قِصره، ينطوي على فاعلية تصوفية غامضة، قادرة على نقلنا إلى «قلب الأشياء» العصية على الإدراك:

Ad

إن خبرتنا مع الفن- يقول شوبنهاور- قادرة على أخذنا خارج أنفسنا. حين نستغرق في عمل فني إنما نغفل أنفسنا تماماً. يبدو الزمن في هذه الخبرة قد توقف. إنها الحالة التي تضعنا، كقوى مدركة، خارج الزمان والمكان. يحصل ذلك للسبب التالي: إن كل الفنون، باستثناء الموسيقى، فنون تمثيلية representational، ولكن ما تمثله ليس الشيء المدرك المفرد، أو الشخص، المشهد أو القصة المفردة، كما هي في ظاهرها، بل شيئاً ما هو ذاته ممثل من قبل هذه الظواهر. العمل الفني يرينا ما هو كلي في ما هو جزئي. يتقبل شوبنهاور فكرة المُثُل لأفلاطون، باعتبار أن كل شيء موجود إنما هو تجسيد لشيء من مثال كليّ أو مجرد، واقع وراء عالم الظواهر. على هذا الاعتبار نملك الفكرة عن بيت، أو زهرة خزامى، أو سلطان. وهذه جميعاً منفصلة، ومستقلة عن أي بيت، أو زهرة خزامى، أو سلطان في الوجود الفعلي. وهذا يصحّ على أي شيء ندركه عبر الخبرة.

هذه الأشكال المثالية إنما هي حقائق مجردة: موجودة، ولكن ليس في زماننا ومكاننا. إن خبرتنا المعتادة مع الأشياء تجعلنا على تَماس مع الأمثلة العينية منها، ولكن العمل الفني يسمح لنا بانتباهات كالومض للمُثل أو الأشكال المجردة ذاتها. الفنّ يُرينا الكلّي المتخفي وراء الجزئي، الكلي خلال الجزئي.

في العمل الفني، إذن، نكون على اتصال مع شيء ما ليس في الزمان والمكان: وهذا يعني أن ذواتنا، طوال استغراقنا فيه، لن تكون في هذا الزمان والمكان أيضاً.

الموسيقى وحدها، من بين الفنون، ليست تمثيلية بهذا المعنى، ولا تمثل «مُثُل» أفلاطون المجردة. إنها، برأي شوبنهاور، تعبير ذاتيّ لشيء ما لا يمكن أن يُمثّل على الإطلاق. شيء اسمه «الشيء في ذاته» noumenon. إنه صوت الإرادة الميتافيزيقية. ولذلك يبدو وكأنه يتحدث إلينا من الأعماق الأبعد عن تلك التي تصل إليها الفنون الأخرى، فتبدو اللغة بالمقارنة قاصرة عن الانقياد له، وكذلك الفكر قاصراً عن فهمه. الإرادة الميتافيزيقية تُعلن نفسها طبعاً كعالم ظاهري، ولكنها أيضاً تعلن نفسها كموسيقى، يمكن أن تُرى كصيغة وجود بديلة عن العالم نفسه. إنها تقف منفردة عن بقية الفنون كشيء مختلف عنهن جوهراً، ومتفوق بلا قياس. الموسيقيّ العظيم ميتافيزيقيّ عظيم، يخترقُ الظاهر الى مركز الأشياء، ويعطي تعبيراً حقيقياً عن الوجود بواسطة لغة تقصر عن إدراكها عقولنا، فكيف عن ترجمتها إلى مفاهيم أو كلمات. يقول شوبنهاور: إن «المؤلف الموسيقي يكشف عن الطبيعة الأبعد للعالم، ويعبر عن الحكمة الأعمق، في لغة لا تفهمها قدراته العقلية»، «الموسيقى تعبر، في لغة كلية تماماً، ومادة متجانسة، وبالأنغام وحدها، عن كينونة العالم الداخلية في ذاتها».

حين أقرأ في النقد الأدبي، والنقد الفني، والنقد الموسيقي أشعر أن استجابتي أرضية، وأن اللغة تُقبل على هذه الأنشطة برائحة ومذاق الحياة المحيطة، ومذاق البراعة في التقنيات الفنية. ولكن ما إن تنشغل الفلسفة في الشأن الموسيقي حتى تُصبح استجابتي سماوية، بالغة التجريد. فتغيب المواجهة المباشرة مع الحسي، لتصبح امتداداً روحياً لكياني الأرضي، ولكن إلى ما وراء الظاهر.