أسبوعي الماضي كان أَيرلندياً. قطعته بين بَلفاست، عاصمة الشمال المقتطع من الجزيرة الأم، ودَبلن العاصمة الجمهورية. وبالرغم من أن القطار قطع أرضاً واحدة لا تأشيرة فيها لحدود، لكنه حملنا من أرض الآلام إلى سماء المسرات الفكرية. فارق هائل في درجة اللون، لا في درجة التأثير. وأحسب أن تأثير التراجيديا يظل أمضى أثراً.

Ad

الجولة التي طافت بي في بلفاست على امتداد السور الشاهق بين حيين في المدينة، وضعتني في قلب بغداد: أسوار معدن هنا، وأسوار أسمنت هناك. على أن الحماقة البشرية واحدة. لأن كلا السورين مطرزان بآثار الرصاص والدم. فقد حدث أن استيقظ الأيرلنديون على أثر كابوس، ليجدوا أنفسهم كاثوليكاً وبروتستانت بسحنة محتقنة. تماماً كما حدث أن استيقظ العراقيون من عتمة كابوس لا يليق ببشر، ليجدوا أنفسهم سنة وشيعة. وكأن شيطاناً من ممالك الحضيض الخفية صبغ أوجههم في غفلة، وهم نيام، بلونين غير لون البشرة الإنسانية السوية.

الحرب الأهلية انتهت بمصالحة سياسية، واستبشر الناس خيراً. ورُقّعت الجدران بشبح من صور ملثمين قتلة، وصور شهداء. ولكن النواح، وقد ارتفع على هيئة أسوار من قصدير وأسلاك شائكة، لن يتوقف يوماً.

عند الميناء كان شبحُ «تايتانك» ماثلاً يملأ الأفق هو الآخر. هنا صُنعت السفينة الأسطورة. ومن هنا انطلقت، لتغرق على الأثر في المحيط البارد. قرأنا أنها تعرضت للاصطدام في مطلع انطلاقها. ثم عادت من أجل ترميم لضرر لم يؤخذ في الحسبان. ثم انطلقت ثانية إلى مصيرها المحزن. «صُنعت تايتانك بيد أيرلندية، وأُغرقت بيد إنكليزية»، جملة خُطّت على صفحة آلاف الأردية المعروضة للبيع في الواجهات.

متحف ألستر للفن في بَلفاست لم يُخمد آثار الرصاص في وجه المدينة. إلا أن جولات دَبلن الفنية التالية كانت ذات غنى كاف للانصراف عن الذاكرة. فإذا كان شبح «تايتانك» الشاحب طاغياً هناك، فإن قوام شركة «غِنِز» الرائق للبيرة السوداء لا يحيد عن بصرك، هنا. فهي، منذ تأسيسها على يد مالكها آرثر غِنِز (1725-1803)، حتى اليوم كأسُ الأيرلنديين المفضلة، بمذاقها الممرور الذي يحمل أثرَ الشعير المُحمّص. قيل إن أحد عنابر تصفيتها الشاهقة وسط المدينة انفجر لخلل ذات يوم، وحين فاضت الشوارع المحيطة بالبيرة السوداء، كانت ساعات مسرة للشاربين.

دبلن مدينة أوسكار وايلد، برنارد شو، ييتس، جيمس جويس، وبيكيت. أشهر أعلام الأدب الإنكليزي الحديث، دون منازع. وكان البحث عن مواقعهم، وآثار أقدامهم محجتي الأولى بالتأكيد. مسكن وايلد لم يعد يحتفظ من وايلد إلا بالدائرة المعدنية التي تُعلن اسمه، وفترة إقامته، على واجهة البيت، الذي اشترته الجامعة الأميركية لخدمات طلبتها. برنارد شو غادر دبلن مبكراً، وعاش حياته الإبداعية في لندن. ولذا فبيت ولادته لا قيمة حقيقية له. ولكن لا أثر لييتس الذي كان دبلنياً في نشاطه، رغم أنه قضى طفولته وشبابه الأول في مدينته سليغو. وبالرغم من أن جويس كان المؤرخ الخيالي لدبلن، في روايته «يوليسيس» وقصصه «الدبلنيون»، فإن بيت إقامته مهجور، مُغلق منذ 2007. ولكن المركز المقام باسمه نافع ومؤثر. ولا أثر لبيكيت، الذي قطع شوط حياته الناشطة في باريس.

كان حضور هؤلاء المعنوي أعمق أثراً من حضور مواقع آثارهم المادية. فمن الصعب تصور هذا الأدب الإنكليزي الذي نعرف دون نتاجهم الكبير. وليس غريباً أن يطمع هؤلاء بسُكنى لندن أو باريس، حتى لو كان أمر هذا الطمع على حساب دبلن التي أنجبتهم، ومنحتهم سحر مواهبهم. لأنهم يعرفون أن دبلنيتهم ليست قشرة تُستبدل.

غاليري أيرلندا الوطني للفن لا يقل غنى عن رائحة الأدب التي تضج بها هذه المدينة. ففيه رأيت بضع لوحات من ييتس الأب، وقد كان رساماً أكاديمياً معروفاً. إلى جانب الكثير من لوحات ييتس الأخ، وكان تعبيرياً متميزاً. ولقد خصص الغاليري جناحاً خاصاً لأعماله. ثم رأيت لوحة فيرمير، رسامي المفضل، «سيدة تكتب رسالة». احتفظ فيرمير بهذه اللوحة لنفسه. ولكن زوجته باعتها بعد موته لخباز بمؤونة أيام معدودة. وفي الغاليري معرض موسع لمجايل فيرمير، ومنافسه في البراعة، الهولندي غابرييل ميتسيو (1629-1667).