طوال 48 ساعة رافقتني هذه الورقة الصغيرة في ثلاث مدن وثلاث طائرات, كل شيء كان يمكن أن يضيع بسبب العجلة باستثناء هذه الورقة الصغيرة التي لم أكن أريدها! وفي المطار الأخير وجدتها ماثلة أمامي رغم أني كنت أبحث عن ورقة غيرها, تكرر هذا الموقف معي مليون مرة خلال 48 ساعة, أي بمعدل ألفي كيلو بايت في الميكروثانية!

Ad

استسلمت لها في نهاية الأمر وقررت قراءتها بتأنٍ فأصبت بالذعر, فقد كانت أشبه ما تكون بطلاسم المشعوذين والسحرة حيث وجدت أنني قد كتبت عليها عبارات كثيرة غير مفهومة في كل الاتجاهات, أسوأ شيء يمكن أن يحدث لي في هذه اللحظة المزدحمة أن يتم القبض عليّ بتهمة الشعوذة!

كان مكتوباً في الورقة: «انقلاب باص في الإكوادور... مجتمعات ما قبل الفخار... كنت مفكرتك رجال! أسرة أرستقراطية بيزنطية... طريق تبوك الجوف... البعثة اليابانية السورية... العصر الحجري الحديث!». بصراحة لم أفهم شيئاً، ولكنني قررت ألا أمزقها وأن أحاول فك طلاسمها في الطائرة, دسستها في جيب الحقيبة بين مجموعة من الأوراق والبطاقات والفواتير مثل أي مهرب مبتدئ, ولكنني تذكرت أن أجهزة التفتيش في مطارات العالم هذه الأيام مشغولة بظاهرة الطرود المفخخة وليس ثمة أحد سيلتفت إلى ورقتي التافهة الصغيرة فوضعتها في جيبي العلوي.

في الطائرة بدأت بتحليل طلاسم الورقة فتذكرت رسالة الأخ فهد البلوي من تبوك التي يستغرب فيها من عدم بث التلفزيون المحلي لخبر وفاة ثمانية مواطنين وإصابة عشرة في حادث مروري على طريق الجوف تبوك بينما يمكن أن يظهر خبر في نشرة الأخبار حول وفاة شخص في «انقلاب باص في الإكوادور»! كما تذكرت أن فهد ركز في نهاية رسالته على بعض طرق السفر الرديئة غير المزدوجة التي تحصد أرواح الأبرياء بمنتهى المجانية!

وبعد لحظات من تأمل الورقة وتقليبها جيداً تذكرت أنني في الليلة التالية لليلة الإكوادور شاهدت- في أثناء بحثي عن نشرة الأخبار- تقريراً تلفزيونياً رتيباً في قناة محلية حول اكتشاف بعثة الآثار اليابانية السورية لمجموعة كبيرة من القطع الأثرية في منطقة «تل الكرخ» في سورية يعود بعضها إلى العصر الحجري الحديث, وأذكر أنني لحظتها ضحكت بعفوية حيث تخيلت الناس في العصر الحجري الحديث وهم يتهكمون على تخلف الناس الذين كانوا يعيشون في العصر الحجري القديم! وقد جاء في ذلك التقرير التلفزيوني الرتيب أن عمليات التنقيب كشفت أيضاً عن مجموعة من الآثار المهمة التي تعود إلى «مجتمعات ما قبل الفخار»! لا أدري لماذا شعرت حينها بأنني أعرف جيداً مجتمعات «ما قبل الفخار» التي تحدث عنها التقرير؟! بل داهمتني فكرة أنها مجتمعات محسوده لأنها مازالت قادرة على العيش بجوار «مجتمعات ما بعد النانو» دون أن تشعر بالفرق!

ثم جاء في التقرير أن الكشف الكبير تضمن العثور على مدافن أسرة أرستقراطية بيزنطية! ولأن متابعة صور تخص مدافن أسرة أرستقراطية بيزنطية يعد سلوكاً أرستقراطياً جداً وبيزنطياً جداً فقد حركت جهاز الريموت كنترول خطوة واحدة إلى الأمام فقط لأقع دون قصد في حبائل قناة «روتانا كليب», قلت لنفسي: «فرصة نوسع الصدر قبل الأخبار», ولكن المطربة أمل حجازي أثارت استغرابي لأنها كانت تنظر إلى حبيبها الخائن وتغني له: «كنت مفكرتك رجال»!... وهنا أدركت أن الحسابات الخاطئة تنطلق أساساً من الفهم الخاطئ!

* كاتب سعودي