كنت خارج البلاد عندما داهمني خبر رحيله، فزاد ذلك من ألم الحدث. محيط المكان تحول إلى ألوان قميئة، جمود، فسكون، فجمود حتى الدمعة تأبى أن تتدلى فيصبح الثقل في الداخل أكثر وطأة، ما أتعسنا عندما لا نكون قرب قبر صديق لحظة رحيله الأخير. هو الحد الأدنى إذاً. هكذا أصبحنا وأصبح زماننا معنا زمناً للحد الأدنى.

Ad

شريط فائق السرعة يدور ولا يتوقف حتى تاهت الصورة والمحيط. 35 عاماً أو ربما أكثر لم أتمكن فيها من الاختيار أو الانتقاء.

من الطبيعي أن يحدث رحيل إنسان بعطاء محمد مساعد الصالح أثراً عند كثيرين.

منذ أن بدأنا رحلة تأسيس جريدة الوطن، في مقرنا الصغير بشارع السور، كنا يداً بيد نتعلم على ضوء السلاسة والليونة والمرونة، وقبول الآخر بكل ما تحويه الكلمة من معنى. كان أبوطلال في ذلك الأمر معلماً دون تلقين، بل معلماً بالمحاكاة، أجمل ما فيه أنك تتعلم دون أن تشعر أنك قد تلقيت درساً، بل سلوكاً طبيعياً لإنسان أسس مدرسة وترأسها دون أن يكون رئيساً، بل صديقاً صدوقاً. لا تراجع عن المبدأ حتى في أحلك الظروف وأشدها وطأة في مناكفتها لمصلحته الذاتية، كالموقف من إضراب نقابة البنوك على سبيل المثال لا الحصر، وعندما بلغ الضغط السياسي أشده وتم حل المجلس وتعليق الدستور لم يتردد في قيادته للموقف الجماعي في الجريدة المعارض لإجراءات صيف 1976 فكانت ضريبة قاسية بالتعطيل لـ"الوطن" و"الهدف". ولم يتوقف الضغط بسبب مواقف متعددة أيضا كانت ضريبتها تركه لرئاسة تحرير الجريدة، وتوليه لرئاسة مجلس الادارة خلفاً للأخ العزيز داوود مساعد، ومن ثم تعيين الصديق جاسم المطوع رئيساً للتحرير، رحمه الله. كان مدرسة في كل محطة تعلمنا منها، كان كم المبدأ فيها طاغياً على كل اعتبار.

وعندما صنعنا سويا اسم "كويتي عتيج" وبدأت بكتابة مقالاتي اليومية تحته، وأحدثت تلك المقالات ما أحدثته من ردود فعل وضغوط، لم يتوانَ في استمرار موقفه المساند ولم يرضخ للضغوط حتى داهمتنا الذبحة الدستورية في 1986 وفرضت الرقابة على الصحافة. هناك حكاية في كل زقاق وكل ممر تضع رجلاً كمحمد مساعد الصالح كأحد رجال الكويت المخلصين ليس للكويت فحسب، لكن للإنسانية جمعاء قد تأتي اللحظة المناسبة للحديث عنها.

كان الشعار الذي دشنت به جريدة الوطن حملتها الإعلانية سنة 1974 هو "الوطن عزيز... عزيز الوطن"، فها نحن نودع عزيزنا بلحظات صمت وإجلال ودمعة محبوسة على عزيز رحل وأي عزيز كان. رحمك الله يا أبا طلال ونسأل الله الصبر لأم طلال والأبناء والاشقاء ولنا جميعاً.

 

* في ذات اللحظة تقريباً غادرنا الإنسان الرائع السفير فيصل المشعان، وهو الذي قام بمهام صعبة في أوقات صعبة على المستويين الشعبي والرسمي.

نسأل الله له الرحمة والصبر للأهل والأصدقاء و«إنا لله وإنا إليه راجعون».