في الساعة التي ينتهي فيها عامٌ ملء الكف، ويبدأ فيها عام كبذرة الحنطة لا يفلت كيان بشري من شاغل ثقيل الوطأة بشأن الزمن، والمصير. شاغل قد يأخذ لوناً وردياً، أو آخر رمادياً.

Ad

الإنسان في الشاعر لا يفلت هو الآخر. والشاعرُ في الإنسان يسعى إلى لحظةٍ كهذه سعي ظامئ إلى أمرٍ مركزي كأمر الزمن، وأمر المصير. ولكني لم أقع على هذا السعي لدى شاعر عربي مُحدث، أو معاصر. باستثناء قصيدة يتيمة لنازك الملائكة، كتبتها عام 1950، ونشرتها في مجموعتها «قرارة الموجة» تحت عنوان «إلى العام الجديد». ونازك، رغم انسجام قصيدتها هذه مع عالمها الشعري في تلك المرحلة، لابد تنطوي على استجابة تأثر بالشعر الإنكليزي، التي كانت مولعة بقراءته. فهي تقول للعام الجديد: «لا تقرب منازلنا فنحن هنا طيوف/ من عالم الأشباح.../ ...آفاقُ أعيننا رماد/ تلك البحيرات الرواكد في الوجوه الصامتة/ ...نحنُ العراةُ من الشعور، ذوو الشفاه الباهتة/ الهاربون من الزمان إلى العدم/ الجاهلون أسى الندم...»، وهذا الخطاب في الحديث عن النفس لابد يذكر بالشاعر تي أس أليوت في قصيدته «الرجال الجوف»: «نحنُ الرجال الجوف/ نحن الرجال المحشوون/ إذْ نميل معاً/ برؤوس مليئةٍ قشّاً». ولكنها في المسحة الرمادية تستعيد رماديةَ الشاعر توماس هاردي الأخاذة.

في الشعر الإنكليزي لا تكاد تخلو زوّادةُ شاعر، في رحلة عمره، من قصيدة، أو قصائد، تُهمّش، بمسرّةٍ أو ألم، على هذه اللحظة الحرجة من التقويم القسري. هو يعرف أن كلّ يومٍ يتخطاه إنما يؤرّخ لمرحلةٍ جديدة. وإن هذا اليوم، في عرفهِ الداخلي هو يومُ سنةٍ جديدة. إذا ما كان يحسب سنته بـ360 يوماً، كما تفترض المدوّنة على الناس.

من أشهر هذه القصائد وأقدمها واحدةٌ للشاعر الاسكتلندي روبرت بيرنز (1788)، التي أصبحت أغنية شعبية شائعة حتى اليوم: «هلْ قُدّر للصحبة القديمة أنْ تُنسى/ وتُحجبُ عن الذاكرة إلى الأبد؟». والصحبة القديمة هنا هي العام الذي يودّع. في قصيدة تينيسون لا يراه الشاعر عاماً مهاجراً إلى النسيان، بل كياناً محتضراً: « ثلج الشتاء يضطجع بعمق ذراعٍ/ وريحهُ بملل تتنهّد:/ أجراسُ الكنيسة تتحدث حزينةٌ وبطيئة،/ تخطو بتؤدةٍ وبصوت هامس تتحدّث،/ لأن العام العجوز في نزعه الأخير. أيها العام العجوز لا تمتْ،/ فقد جئتنا عن طيبِ نفسٍ،/ ومعنا عشت مطرداً،/ أيها العام العجوز لا تمتْ...».

في واحدة من أبرز قصائد توماس هاردي التي كتبها عن مساء هذا اليوم الأثير، وهي بعنوان «الطائر المغرد في العتمة» (1902) يبدأ مع هذا المفتتح: «على بوابة الأيك انحنيت/ والصقيعُ كان شبحاً رمادياً/ وبقايا الشتاء جعلت من عين النهار اليقظة قفراً مهجوراً/ سيقان اللبلاب تحجب بشباكها السماء/ مثل أوتار قيثارة مقطّعة/ وكلُّ إنسي صار يبحث عن ركن بيته الدافئ».

توماس هاردي، مثل نازك الملائكة وكل ورثة الرومانتيكية، كان شاعراً ذا رؤية شتائية بامتياز. إن المناسبة هذه لا تعطيه إلا صورة عام/ عمرٍ راحل، ونهاية محتومة. وما من إيمان في بعث. وهو يحدق في ما يتحرك، ليتلاشى في هوة الماضي. ولا يشبه الشاعر شَيلي في تساؤله: «إذا ما يحلّ الشتاءُ/ أيكون الخريف في منْأى وراءه؟».

إلى جانب أن هناك قصائد آملة كثيرة، وقصائد متأملة كثيرة، إلا أن قصيدة الشاعر أودن «رسالة العام الجديد» (1941) تظل الأوقع أثراً بسبب طولها، ومنحاها الفلسفي، ومدار تأملها. فهي كُتبت لصديقة (إليِزابيث ماير)، لكنها اتجهت بمجملها إلى محاكمة العصر الحديث، العصر الذي توّج بحربين عالميتين مريعتين، وأسر فردية الكائن في العزلة. القصيدة في أجزاء ثلاثة طويلة، ومواضيعها تتسع لمسألة الشعر، الخلود والموت وما بعده...

من منّا لم تأسره اللحظة الأخيرة من التحوّل الزمني الإيهامي هذه؟