في حياتي الطبية ثمة مرضى لا أستطيع نسيانهم، إما لمساهمتي، بفضل من الله، في علاج بعضهم من السرطان أو لمشاهدتي عجز الطب عن مساعدة البعض الآخر خصوصاً في الثمانينيات من القرن الماضي، ثم لمست التطوّر الهائل في معالجة أورام معيّنة حتى قاربت نسبة الشفاء فيها مئة في المئة اليوم، في حين لم تنل أورام أخرى النصيب نفسه من النجاح بعد، هذا الأمر بالذات وجّهني نحو التخصّص في علاج بعض أنواع السرطان إبان تدريبي.

Ad

في سان فرانسيسكو، كانت البداية بإجراء أبحاث عن التحكّم بخلايا الغدّة الدرقية السرطانية عبر استخدام مادة الرالوكسيفين في مختبر الجامعة، وكنت مستاءً لعدم حصولي على نتائج إيجابية لنشرها في المجلات العلمية، ووصلت إلى ما يُسمى «الطريق المسدود»، فقصدت الاستشاري المشرف على تدريبي البروفسور أورلو كلارك، أحد أعظم جراحي عصره، وسألته إمكان أن أختار بحثاً حول التحكّم بالخلايا السرطانية، فربما أفلح في الحصول على نتائج.

استغربت حين سألني عن الهدف من وجودي في مختبر الأبحاث، فأجبت: «لأنشر بحثاً بإسمي أولاً، ثم لأكتشف العلاج الذي سيغيّر وجه البشرية»، ضحك وقال: «أنت هنا لتفهم ما هو السرطان لتساعد مرضاك في خياراتهم، ولتقرر ما إذا كنت مستعداً لتكريس حياتك لدراسة هذا المرض كما فعلت أنا».

قبل أن أجيب أعطاني ورقة وقال: «إذهب الى هناك وستفهم ما أقول»، وإذا بالورقة تحتوي على دعوة موجّهة إلى الباحثين في السرطان المبتدئين للقاء أشهر المخترعين والعلماء بهدف فهم موضوع واحد هو: كيف تنشأ الخلية السرطانية.

كنت العربي الوحيد والجراح الوحيد في المؤتمر الذي حضره أكثر من ٢٠٠ باحث. في البداية، شعرت بتخلّفي فقضيت ليالي المؤتمر أحضّر للغد، واستغربت وجود مجلدات بآلاف الصفحات عن الخلية وكيفية التحكّم فيها.

لا أريد أن أسرد تفاصيل حول ما فهمته، لكن يمكنني أن أنقل للقارئ مفاهيم تساعد كل مهتمّ على الخروج بتصوّر عن السرطان:

الإنسان هو مجموعة خلايا تأتي من تكرار انقسام خليّة أم كونها تزاوج حيواناً ذكرياً ببويضة، ولكل خليّة في الجسم مهمّة محددة تؤديها كأن تصنع هرموناً أو تفرز أنزيماً معيناً، وتعمل الخلية بجدّ إلى أن تموت.

للخلية عمر محدّد تموت بعده وهذا الموت مبرمج، تعيش خلية الدمّ الحمراء ١٢٠ يوماً، لذا لا يخزَّن الدم أكثر من ١٢٠ يوماً في بنك الدم، في حين تعيش خلايا مثل خلايا القلب أطول من عمر الإنسان نفسه، قد يموت هذا الأخير ويبقى القلب يدقّ فنزرعه في جسم شخص آخر ليعيش عمراً جديداً، لكن لا يمكن لخليّة القلب أن تتكاثر.

ينشأ السرطان في لحظة تكوُّن الخلية فتولد كل خلية إما سرطانية أو غير سرطانية، يحدث هذا أثناء انقسام خلايا الجسم وتكاثرها. تعني عملية انقسام الخليّة أن تنشطر الخلية الأم إلى خليتين متساويتين تقتسمان الشفرة الوراثية أو مادة

الـ «دي إن إي»، فلو حصل تغّير في الشفرة الوراثية أثناء ولادة خلية ما بحيث تعطلت الشفرة الوراثية المسؤولة عن الموت، تتكون خلية سرطانية. إذاً، خلية السرطان هي خلية فقدت القدرة على الموت المبرمج، لكنها قادرة، بعكس خلية القلب، على التكاثر بسرعة، وهذا يجعل القضاء عليها صعباً.

كذلك، يؤدي تغيّر شفرة التكاثر في الخلية السرطانية إلى نمو الورم السرطاني بسرعة، لكن لا يكفي هذا لقتل الإنسان المصاب بالورم، إنما قدرة خلية السرطان على اختراق ما حولها والانفصال عن محيطها لتنتشر بعيداً هي ما يؤدي إلى الموت، فتغيّر ثلاثة مواقع في الشفرة الوراثية سيؤدي إلى فقد القدرة على الموت والتكاثر ثم اختراق ما حولها والانتشار بعيداً، وحسب درجة تغيّرها تكون شدّة الورم، لهذا نعرف أوراماً تنمو بسرعة لكنها لا تنتشر بسهولة، فيكون علاجها سهلاً، في حين نجد خلايا تنتشر بسرعة حتى قبل أن تتكاثر، وهذه أورام شديدة الخبث والفتك يصعب التخلّص منها. وقبل أن أختم أبشرّكم بأنه يمكن أن نبطئ أو نوقف توليد الخلايا السرطانية.

لتوضيح الأمر، أشبّه جسم الإنسان بمصنع مصابيح الإضاءة، ففي الصغر أو عند بداية تشغيل المصنع، تكون الأجهزة ممتازة وفرصة إنتاج مصباح معطل ضعيفة، كذلك يكون مراقب خط الإنتاج شاباً وسيلتقط بنظره الحاد المصابيح العاطلة قبل أن تغادر خط الإنتاج.

في جسدنا تمثل الخلايا السرطانية المصابيح العاطلة ويمثل جهازنا المناعي مراقب خط الإنتاج، في شيخوختنا أو شيخوخة المصنع تكثر الأعطال ونسبة المصابيح العاطلة، كذلك يضعف البصر وتركيز مراقب خط الإنتاج فتفوت منه المصابيح العاطلة.

واجبنا أن نقوم بصيانة المصنع أو جسدنا دورياً بالكشف المنتظم ونمتنع عن كل ما يزيد تكوين خلايا السرطان، أشهرها التدخين أو تناول الأغذية المحتوية على مواد حافظة كيماوية وغيرها من التصرفات الضارة، كذلك يجب الحرص على تقوية الجهاز المناعي بتناول الأطعمة المانعة للتأكسد مثل: الخضار، الفاكهة غير المطبوخة، ممارسة الرياضة التي تزيد مناعتنا.

علينا أن نفهم أن ثمة أعضاء أكثر عرضة للسرطان في أجسامنا لكثرة انقسام خلاياها مثل الدم والثدي عند المرأة والبروستات عند الرجل، لذا من الضروري فحص هذه الأعضاء أكثر من غيرها وسنتحدث عن ذلك مستقبلاً.

مدونتي المقبلة حول: ماذا أفعل إذا أُبلغت بإصابتي بسرطان الثدي؟ وأعدكم بعد الانتهاء من السرطان أن نتحدث عن طبّ أكثر بهجة مثل عمليات التجميل واستعادة الشباب.