كتبتُ في هذا العمود، قبل أن تشرعَ الانتفاضةُ الليبية الفتية كلاماً مفاده أن ثورة التغيير في تونس ومصر جاءت من رئةٍ متعافية لشعب أُتيح له أن يتنفس، ولو بمقدار، هواءَ الحرية في عهود الاستبداد التي عاناها طوال عقود، مقارنة بشعب العراق الذي لمْ تُتح له هذه الرئة المتعافية، ولا هذا المُتنفّس، تحت سلطة صدام حسين. ولم أنسب فضلاً لمستبدي تونس ومصر في هذا. «... فجريمة المستبد، في النهاية، واحدة، ولكن الشعب، مهما بلغت مراحلُ قمعه، لابد له من مُتنفس، ولو بالسر، ليحافظ على رئةٍ ناشطة تضمن له قدرة ولو نسبية على الحركة، وعلى هذا الضوء، هل من بلد عربي آخر يمكن أنْ يُقرن بعراق صدام حسين، بحيث تبدو انتفاضةُ الشعب المنهَك فيه شبه مستحيلة دون استعانة بالخارج، كما حدث في العراق؟ أعتقد أن ليبيا القذافي أقربُ المرشحين لهذا الشبه، فالشعب الليبي غُيّب في العتمة، خارج التاريخ، أكثر من نصف قرن، ولم تعد رئته متعافية». (الجريدة 3 فبراير).

Ad

وبعد هذا الحديث بقرابة أسبوعين انتفض الشعب الليبي، واجتاحت رياح انتفاضته المدن. وطالب الشعبُ بتغيير النظام، وبرحيل دكتاتوره. ومنذ الوهلة الأولى لهذه الخطوة الشجاعة استدارت فوّهاتُ بنادق ومدافع القذافي وابنائه ومرتزقته إلى صدور المنتفضين من أبناء شعبه. لم يخرج إلى الناس خطيباً، ينصح الرعية بالسكينة، ويعد بالإصلاح، كما فعل بن علي ومبارك، بل فعل بحسم ما فعله صدام حسين قبله، واتهم الخارجين عليه بالخيانة والعمالة، وهدد بالإبادة والسحق، الفارق أن شخصَ «القاتل» في صدام حسن كان وظل بارداً، وشخصَ «القاتل» في القذافي كان وظل حاراً. برودةُ الأول مثيرة للروع، وحرارة الثاني مثيرة للضحك (لك أن تراجع أغنية «بيت بيت، زنقة زنقة...» الشهيرة). على أن أحداً منهما لم يتردد ثانية في حملة الإبادة للناس العزّل. وأن هؤلاء الناس العزّل، بالرغم من مواصلة التحدي، ظلوا عرضة للإبادة الموعودة أياماً وأسابيع.

ما من صدى للاستغاثة، لا في أروقة الجامعة العربية، ولا أروقة الجامعات الإسلامية، فهي عاجزة، وذريعتُها ليست بعيدة عن الصحة. والشعوب العربية منشغلة بهموم انتفاضاتها. القوى الناشطة الوحيدة في القدرة على إيصال الخبر والتعليق عليه هي أجهزة الإنترنت ومحطات التلفزيون بالغة التأثير والقوى الناشطة في القدرة على الاستجابة العملية في الإغاثة والعون، هي القوى الغربية. ولقد وجه الليبيون، بصورة صريحة ومباشرة، صرخة استغاثتهم إلى هذه القوى. لم يلتفتوا لحظة إلى الإرث العربي الكاذب المعبأ بالعداء للغرب باسم الكرامة، والسيادة الوطنية. المستغيث لا تغويه القوى اللفظية في داخله، بل قوى الرغبة في الخلاص والحياة. أحد الطلبة الليبيين أجاب أحد المتشككين في تدخل الغرب (الطمع بالنفط طبعاً!) بصوت بالغ البراءة: «وليكنْ! وهل نبخل في المكافأة على فعل عظيم كهذا؟ الغرب يستخدم أبناءه، وأداته العسكرية باهظة الثمن للدفاع عنا ضد الهتك والموت دون أي مقابل؟ أي انعدام دراية وانعدام حساسية!»

السيد عمرو موسى قدم شهادة ممتازة لليبي الشاب على انعدام الدراية والحساسية العربيين هذا، حين اتهم مجلس الأمن بتجاوز شرط الحظر الجوي إلى الحظر الأرضي على كتائب القذافي المميتة. وكأنه يقول لمجلس الأمن: لا تتركوا القذافي يقتل المدنيين العزل بطائراته، لأننا اتفقنا على هذا. ولكنْ اتركوه يقتلهم بدباباته ومشاته ومرتزقته.

إن حلقات الصِدام المصيري بين الشعب والدكتاتور في العراق وليبيا متقاربة. ولكن الاستعانة بالغرب في ليبيا لن تخلّف التعقيدات المربكة التي خلّفتها في العراق، بفعل كثرة قومياته وأديانه وطوائفه المضطهدة. وإذا كان الأميركان أغبياء في تسليم مفاتيح السلطة الديمقراطية للأحزاب العقائدية في العراق، لا لممثلي الشعب المضطهد، الأحرار من لعنة العقل المعتقل، ولم ينتبهوا إلى التعارض العصي بين الديمقراطية وبين نظام الأحزاب العقائدية، فإن الشعب الليبي، مثل الشعب التونسي والمصري، خرج منتفضاً دون قيادات حزبية عقائدية. على أن الشبه سيظل غير غائم في تصرف الجلاديْن وأبنائهما. وأحسب أن مصيرهما سيحرص على الاحتفاظ بوجه الشبه هذا!