في مُنتجع جبلي يبعد عن مدينة ميلان الإيطالية قرابة الساعة والنصف قضيت اثني عشر يوماً أحاورُ الصمتَ والسحب المجاورة. كتبتُ وقرأت ورسمت، وألِفتُ الطبيعةَ الخشنة، التي تُباهي الطبيعةَ الأليفة في المدن. لأن عناصرها تتقاطعُ مع بعضٍٍ على هواها. تماماً كما تتداخل الخطوطُ، الألحان، الصورُ اللغويةُ في حداثة الرسم، الموسيقى، والشعر. رأيتُ تحفّزَ الصيادين مع كلابهم ليوم الصيد الموعود. كنت أود لو أجوب مع السحب شعابَ الجبال هذه أنذر الغزلان، الثعالب، الأرانب، الخنازير البرية من الكمائن المبيتة. أعيدُ على النفس البيتَ الشعري الأثير للمتنبي: «كلما أنبتَ الزمانُ قناةً/ ركّب المرءُ في القناةِ سنانا».

Ad

كنت أعرف أني، حين أُقيم في ميلان، على موعد مع زيارة لمعرض تشكيليّ للشاعر أدونيس، افتُتح قبل أسبوعين من زيارتي في قاعات «القصر الملكي» الشهيرة، شهرة دار الأوبرا «لا سكالا».

وأدونيس الشاعر اقتحم عالم التشكيل دون مقدمات منذ سنوات، وعلى الأثر أقام أكثر من معرض منفرد ومشترك لأعماله التي لم أرها. اقتحمه لأنه يعرف أن قرابة الشعر من الرسم عميقة، لا تقتصر على عنصر الصورة البصرية وحدها، بل على عنصر الخط، والكتلة، والفراغ، والسطح. ولو تأملناهما لوقعنا على عناصر أبعد مرمىً، وأخفى. الفارقُ الجوهري الوحيد الذي يضع كلاً منهما في عالم مستقل هو أن الشعر يُخفي دلالة، تتولد بفعل اللغة من محاورة القارئ للنص. في حين أن الفن الذي لا يستخدم لغةً معفيٌّ من هذا. وليس أدل على ذلك من أن الشعر ذا الرابط بالهاجس الأخلاقي، لا يتطلّبه الفن. ولكن أدونيس الشاعر يُنكر هذا في أكثر من موقف نقدي. فلا علاقة بين الشعر والأخلاق، يقول، والشاعر في حلّ من هذا. قال ذلك في معرض دفاعه عن الشاعر المتنبي.

على غلافِ مجموعة شعرية متأخرة لأدونيس («تنبّأ أيها الأعمى»، دار الساقي)، وقد كانت من بين ما قرأت في المنتجع الجبلي، لوحةٌ من لوحاته. بيانُها جماليٌّ، بالغ الأناقة. قطع كولاج عائمة على سطح ورقة بيضاء. من الممكن أن يكتفي المشاهد بهذا. ولكنه لا يملك إلا أن يحاور النص، حين يصبح قارئاً لشعر أدونيس على الصفحات وراء الغلاف. وأدونيس لا يرسم حين يكتب شعراً، لأن الصورة في شعره ذهنية، وتجريدية على الأغلب. ولكنه قد يفعل العكس: أعني يكتب شعراً حين يرسم. وهذا ما رأيته في لوحات المعرض الأنيقة، التي تبدو أشبه بمصنوعات يدوية ثمينة، وضعت باحتراس داخل صناديق زجاجية.

معظم الأعمال صيغت على ورق A3، أو ما يقارب ذلك. كولاجات من مواد متنوعة: قطعٌ من قماش سميكٍ غامقٍ عادةً، رقائق معدنية، حصى، حديد صدئ، قصاصات ورق ملوّن. جميعها تبدو صامتة تحت وابل من كلمات متسارعة، حيوية، بخط يده، منتزعة من شعره، وشعر آخرين من الموروث القديم. وما من شاعر معاصر.

لقد أعجبتني اللوحاتُ التي تحاول مقاربةَ المخطوطة العربية القديمة. حيث تخلد الحروفُ، الكلماتُ، الأسطرُ إلى الصمت، شأن مواد الكولاج التي تتعانق، أو تتقاطع هارمونياً، وبتكتل صلب، صامت. في حين تتدفق الحركةُ مع بعضها الآخر حين تسارع الكلمات باتجاه الكتل الملوّنة في الوسط حتى تصبح الحروفُ خيطيةً، لا تخلف أثراً صلباً على المساحة البيضاء. كان لهذه الكتل الملونة، الجاهزة، المنتزعة من الحياة اليومية أن تكون أكثر بلاغة في التعبير لو أنها وجدت فضاءً حولها، صافياً، أو مشغولاً بأحرف لا تمت إلى شعر أدونيس المألوف، أو شعر غيره الأكثر ألفة. لأن في أعمال أدونيس الكولاجية ما يُغني عن الشعر، الذي يشغل المشاهد إلى درجة تسطيح العلاقة بينه وبين اللوحة.

المعرض الذي أُقيم في قاعات القصر الملكي كان مُشتركاً مع فنان إيطالي معروف يُدعى ماركو نيريو روتيللي. يسعى هو الآخر، ومنذ سنوات، إلى إيجاد حوار غنائي بين التشكيل والكلمات، أو كلمات الشعر بصورة خاصة. ولقد اشترك مع أدونيس في أنشطة فنية سابقة. الأمر الذي يعني أن صوت أدونيس الشعري قد حقق مجرىً واسعاً في التربة الإيطالية. فله أكثر من مجموعة شعرية مُترجمة صدرت هناك، وله مكانةٌ في هذا البلد لم تتحقق لشاعر عربي.