تحتفل الأوساط الثقافية والأدبية في الأيام المقبلة بالذكرى المئوية لولادة الكاتب والمسرحي الفرنسي الكبير جان جينيه، وتستمر هذه الاحتفالات حتى العام المقبل 2011، ليصادف مناسبة مرور 25 عاماً على رحيله، وقد بدأت هذه الفعاليات الثقافية فعلياً في بعض الدول ومنها الدول العربية، فلسطين، لبنان، دول المغرب العربي، مصر، بالإضافة إلى فرنسا والدول الأوروبية، احتضنتها المراكز الثقافية الفرنسية من قراءات وعروض مسرحية وسينمائية، هنا استذكار للراحل الكبير.
«ينبغي صيانة جميع صور اللغة واستخدامها، فهي كائنة في الصحراء، حيث ينبغي الذهاب للبحث عنها».كانت هذه هي العبارة التي تصدرت كتاب «أسير عاشق» لجان جينيه بعد وفاته في عام 1986. وكان قد عكف على كتابته منذ 1984. لم أعرف كاتباً غربياً سطر على نحو عميق وإنساني تجربة المقاومة الفلسطينية مثلما فعل جان جينيه. هذا كاتب مختلف كلياً كما أنه لا يشبه الآخرين.لقد أقام جان جينيه إقامات متفرقة في طنجة، غير أن هذه الإقامات كانت تختلف عن إقامته في سبعينيات القرن المنصرم مع الفدائيين في المخيمات الفلسطينية، بمدينتي جرش وإربد. في ظهيرة رائعة كنا محمد شكري وأنا قادمين من طنجة، تلك المدينة التي تستلقي على أسرة من الأمواج إلى الرباط، عرّفني فيها شكري مصادفة، بجان جينيه، هذا الكاتب الذي يعد أحد أكبر الكتاب الراديكاليين القلائل في العالم. لقد التقينا في شارع عام على نحو دقائق لا غير قرب ظل شجرة وتحت شمس خريفية، وكنت ألتقي بجان جينيه للمرة الأولى، بعد أن قرأت له معظم أعماله تقريباً، وكنت على اطلاع بمختلف أشكال العلاقة التي نسجها جان جينيه مع الحركات الطليعية في العالم على الصعيدين الاحتجاجي والثقافي أيضاً، الثورة الجزائرية، ايار 68، الفهود السود في الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى علاقته بطنجة. كان جان جينيه وقتها مصاباً بسرطان الحنجرة، ويرتدي قمصلة جلدية قديمة. عينان صغيرتان وزرقاوان في منتهى الحدة هكذا أحسست. وعندما عرف أنني من عُمان مدّ إليّ يده ليصافحني، ثم سألني سؤالاً عابراً عن عُمان فأجبته باقتضاب، إذ سرعان ما أخذتنا شكري وأنا أزقة مدينة الرباط، لكنني لمحت جينيه في ما بعد أكثر من مرة ولم أشأ إزعاجه، هو الذي كان يبعد عن نفسه صفة الكاتب إلى أبعد الحدود، كما أنه لم يكن يهتم بالشهرة الأدبية، بل كان يسخر منها.قدم جان جينيه في كتابه «أسير عاشق» ونصه «أربع ساعات في شاتيلا» شهادةً جريحةً عن التجربة الفلسطينية، فاضحاً الدولة العبرية وتواطؤ الدول الغربية، بقسوة ودون تنازلات. يقول جينيه عن تجربته الفلسطينية: «كنت قبل وصولي هناك، أعرف أن وجودي في القواعد الفلسطينية على ضفة الأردن، لن يقال بوضوح أبداً: لقد استقبلت هذه الثورة كما تتعرف أذنٌ موسيقية على النغمة الصحيحة». وفي أربع ساعات في شاتيلا، التي كتبها إثر الزيارة التي قام بها إلى مخيمي صبرا وشاتيلا في سبتمبر عام 1982، إبان الغزو الاسرائيلي لمدينة بيروت، قدم جينيه نصاً حياً وجارحاً عن المجزرة التي ارتكبت هو الذي دخل المخيمين ورأى بعينيه، تلك الجثث المتناثرة وهو يكاد لا يصدق بشاعة الجريمة التي اقترفت. وأربع ساعات في شاتيلا، نص إشكاليٌ ومفتوح، يختلف عن أعماله المسرحية الشهيرة إلا أنه قُدم أكثر من مرة على خشبات المسارح في العالم. نصٌ يحكي واقعة الرعب والتراجيديا. وكان العمل الفدائي الفلسطيني بالنسبة لجينيه يرقى إلى مصاف القداسة. وأنا لا أتفق أبداً مع بعض التحليلات في الإسقاط النفسي والتي تذهب إلى اعتبار علاقة جينيه بالحركات الثورية أشبه بالكفارة والانتقام من أبيه وأمه والمجتمع الذي عاش فيه طفولته الأليمة باعتباره «لقيطاً»، إذ إن جينيه كان يعي تماماً موقفه الرافض والجذري لكل أشكال التسلط، مهما كان نوعها، هو الذي عاش تجربة اللعنة والألم، فكتب «الشرفة»، «الخادمات»، «مذكرات لص»، «سيدتنا سيدة الازهار» و»أسير عاشق» بنفس الزخم والقسوة وبلغة وصفت على الدوام بأنها جوهر بلاغة الكلاسيكية الفرنسية. لقد كان تمرد جينيه المبكر حقيقياً وقدرياً فعرف التشرد والسجون حتى رفعه جان بول سارتر إلى مرتبة القديسين والشهداء في كتابه الشهير: جان جينيه القديس والشهيد.
توابل
ذكرى 100 عام على ولادة جان جينيه
15-12-2010