سعد الحريري في سعد آباد
لم يكن الابن الوحيد للرجل لكنه كان المرشح الوحيد المقترح يومها من قبل والده ليمثله في مهمة «احتضان» طهران إقليميا ونسج علاقات استراتيجية معها لمكانتها التاريخية التي لا يمكن إهمالها, خدمة للبنان والمنطقة, في الوقت الذي كان يعمل آخرون من نفس الإقليم لمنع حتى قطع غيار الطائرات المدنية من الوصول إليها خدمة للولايات المتحدة الأميركية على خلفية أن إيران هي البلد الأكثر تمرداً على الأحادية الأميركية والعصية على التطويع والاحتواء!
هذا الكلام ليس تحليلاً أو تخميناً بل هو نص تاريخي من جزأين: الأول لمستشار الراحل رفيق الحريري والشاهد على عصره المنفتح على إيران وعلى «حزب الله» اللبناني الصديق والزميل مصطفى ناصر, وهو ينقل موقف رجل لبنان المقتول غدراً والذي كان بمنزلة وصيته لابنه سعدالدين قبل ثلاثة عشر عاما تاركاً إياه في عاصمة بلاد فارس ليقوم بمهمة «احتواء» التناقض الذي ابتليت به المنطقة بين مصالح الإقليم المشتركة وإيديولوجيا الهيمنة الأميركية!أما الجزء الثاني من الكلام فهو نقلاً عما أفرج عنه الدبلوماسي الأميركي المخضرم مارتين إنديك من مذكراته في كتابه الأخير يشير فيه إلى أمير سعودي مشهور ومعروف في صداقته التاريخية لعائلة بوش يقول المسؤول الأميركي السابق إنه كان من المتحمسين يومها لحصار إيران الصاعدة في المنطقة على حساب إيديولوجيا الغرب، ظناً منه أن توسيع نطاق الحصار وتضييقه على الدولة الفتية يمكنه أن يخضع معادلة المقاومة والممانعة الفتية في المنطقة في حينها لمصلحة معادلة إيديولوجيا الهيمنة ومنطق الاحتكار والقوة الأحادية!لكن إيران اليوم وهي تستقبل الابن المؤتمن من قبل أبيه على مصالح لبنان والإقليم كما يفترض, والحامل لإرث هذه الوصية كما يريد له محبوه، هي بالتأكيد غير إيران التي تعرف عليها الحريري الأب!صحيح أن الحصار لايزال مضروباً عليها من قبل قوى الاستكبار العالمي, إلا أن إيران اليوم باتت أقرب ما تكون إلى دولة عظمى صارعت الأميركيين في أكثر من نزال وانتصرت عليهم ولاتزال تصارعهم في أكثر من حلبة لاحتواء الفتنة والطيش الاستعماريين اللذين تريد واشنطن إشاعتهما في أكثر من قطر عربي وإسلامي في الإقليم!في المقابل، فإن سعدالدين الحريري هو الآخر لم يعد هو رجل الأعمال الشاب والابن الأصغر الذي يأتي بعد بهاءالدين في الخبرة والتجربة, والذي يمكنه الاسترسال في معادلة تجريب الصيغ المختلفة في فعل الخطأ والصواب على طريقة الهواة بعيداً عن ثقل مسؤولية رئيس حكومة كل لبنان من ألفها إلى يائها، أي من «سوليديرها» التجاري البراق إلى مقاومتها المسلحة الباسلة إلى كسروانها إلى عكارها إلى طرابلسها إلى صيداها إلى صورها إلى بنت جبيلها ومارون رأسها الذي رفع كل رأس! لا أحد في لبنان ولا في إيران يريد لسعد الحريري أن يكون جزءاً من محور إقليمي على حساب محور إقليمي آخر حتى يقول، وهو على عتبة زيارة طهران، إنه أبلغ الرئيس أحمدي نجاد ذلك عندما زاره في لبنان أخيراً, لكن على سعد الحريري وبعد أن يتذكر وصية والده الآنفة الذكر, أن يعرف أيضا أن مساحة المناورة التي كانت متاحة لوالده في زمن معادلة توازن رعب نيسان 1996 لم تعد هي نفسها في عام 2010، كما أن زمن تسعينيات القرن الماضي الأميركي الهوى لم يعد هو نفسه الزمن بعد أن شهدت المنطقة لاسيما لبنان تحولات كبرى جعلت من المركب الأميركي مركباً يشارف على الغرق لا يمكن الرهان عليه من جانب أي عاقل!هذا ناهيك عن فرق أساسي وكبير يفصل بينه وبين أبيه في هذا السياق ألا وهو أن والده كان قد جاء إلى إيران يومها مساهماً أساسيا في معادلة رعب 1996 المائلة لمصلحة المقاومة، وهو أمر أدركته حتى «الحاجة أم كامل» كما لخصتها في تصريحاتها الشهيرة لـ»المنار» في «حرب تموز» 2006، وهي تفدي كل ما تملك من ممتلكات تعرضت لعدوان الصهاينة لسيد المقاومة, في حين أن الابن الذي يزور العاصمة الإيرانية اليوم يأتي إليها وهو مثقل بمعادلة «طيش فيلتمان» الفتنوية الجهنمية الشيطانية، والتي إن لم يكن هو شخصياً له نصيب منها فلزملائه دور في التحالف بالتأكيد، وبالتالي فهي إن لم تكن تضغط عليه مباشرة- حتى لا نقع في مناكفة معه تشبه مناكفته مع زميله في حكومة الوفاق شربل نحاس- فإنها تضغط بالتأكيد وبقوة على حلفائه في الأمانة العامة لـ»14 آذار» وما تبقى من رموز «ثورة الأرز» الملونة!ومع ذلك كله، فإن تدبير الرئيس أحمدي نجاد والقيادة الإيرانية ومشيئتهما أرادت أن تعامل سعدالدين كما عاملت أباه رفيق، وأن تستقبله استقبالا يليق بالراحل رفيق الحريري، أي في نفس المكان الذي استضافت فيه أباه- قصر سعد آباد- متفائلة بوصية الأب لابنه!ومع ذلك كله ثمة من يرى حلقة مفقودة في هذه الزيارة التي سماها سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان بالتاريخية, ألا وهي غياب الجسر الواصل بين الأب وابنه والحافظ لسر أبيه وسر المقاومة أي المستشار مصطفى ناصر عنها, على أمل ألا يكون ذلك نوعا من تمكن وعاظ السلاطين أو بعض المنتفعين الصغار من حديثي العهد بالسياسة والدبلوماسية من بقايا اليسار التائه من مطبخ صناعة قرار رئيس وزراء كل لبنان على حساب عصاميي عهد والده، مثل النائب والوزير بهيج طبارة وغيره, متمنين في الوقت نفسه لسعد رفيق الحريري أن يكون حذراً ومتيقظاً لما قد يكون قد أعد له البعض من مكائد عسى أن يواجههم بالحكمة والاتزان ليصدق المثل عليه «الولد سر أبيه»!يبقى أخيراً وليس آخراً فإن ثمة من لاحظ في إيران غياب وزير خارجية لبنان عن هذه الزيارة «التاريخية» وهو الذي يمثل زعامة تاريخية مهمة كزعامة الأستاذ نبيه بري بالإضافة إلى غياب ممثلي الزعيمين الدرزي وليد جنبلاط والمسيحي ميشال عون عنها، وهما الزعماء الثلاثة الأكثر تأثيراً في صناعة قرار حكومي عاقل ومتوازن كما هو معروف للجميع، ما يجعل الانطباع السائد لدى المتتبعين بأن الرجل لايزال يصغي إلى فريق من المستشارين الذين يريدون إدارة حكومة الوفاق الوطني بالكيدية والمناكفة أكثر مما يصغي إلى عقلاء قومه الذين يريدون له النجاح في مهامه «التاريخية» بما يجعله على سر أبيه حقاً!لكن المفارقة الكبرى ربما هي أن من كان يجاهر حتى يومين قبل الزيارة «التاريخية» بكل ما يتصل بسلاح المقاومة ومنعتها، متهماً إياها بالعمل لمشروع غير لبناني هو مشروع ولاية الفقيه، تراه يرتمي في أحضان هذه «الولاية» دون أن يرف له جفن أو أن يقر ويعترف بخطأ حساباته مع شريكه في المواطنة والحكم!* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي الإيراني