ملكة الصمت

نشر في 29-11-2010
آخر تحديث 29-11-2010 | 00:00
 فوزية شويش السالم تعاطفت كثيراً مع الكاتبة الفرنسية ماري نيمييه، فقد اشتبكت وتماثلت بعض من خيوط الأحداث في حياتها مع ما يماثلها من أحداث في حياتي، مما جعلني وأنا أقرأها كأني أقرأني، فهناك الكثير من أصداء حياتها، وجدت لها الصدى في سيرة حياتي.

في هذه الرواية «ملكة الصمت»، التي هي سيرة لذكرياتها مع والدها الكاتب الشهير روجيه نيمييه، والتي حصلت فيها على جائزة «ميديسيس» عام 2004، وفيها تكتب عن تفاصيل حادث التصادم الذي أودى بحياة والدها الذي مات في عمر 36 سنة، أي في عز مجده وشهرته، كان عمرها وقتذئذ خمس سنوات... وكتبت: «وجدت صعوبة في إدراك ذلك، شعرت، أني كبرت من جسامة الموقف».

ومن ثم بدأت البحث في كل ما يمت بصلة إلى والدها بعد أن كبرت حتى تعالج هذا الغياب الطويل الذي يتعذر علاجه.

هذا الفقد الذي لا يرحم تشابهت أوجاعه بيننا... وله الدور الأكبر في نحت وصقل وتشكيل الشخصية وأيضاً في تغيير مسارها، فالموت، خصوصاً في حالة الفقدان المبكر الذي تقول عنه: «يتحول هذا الفقدان المبكر إلى آلة صغيرة يتم تصنيعها من الكتابة والصمت بالتبادل».

الموت... هو الذي يحور مجرى الشخصية ويغير من ملامحها الأصلية، خصوصاً في الطفولة أو كما تقول الكاتبة: «ان تتفق أو ان تختلف يجب التكيف مع ذلك، مع الغياب، مع الخوف، مع الألم. التماسك؟ أتعني هذه الكلمة شيئاً عندما نتحدث عن اختفاء شخص حبيب؟

أين يقع هذا التخوف، في أي مكان؟

لم أستطع تحديد مكانه بدقة إلا أنه كان هنا، في مكان ما بين أسفل البطن والأعصاب الواقعة أمام الأورطي على مستوى المعدة، وقد تعلو أحياناً إلى القلب».

هذا هو بالضبط ما شعرت به من بعد فقدان زوجي في حادثة تصادم، وأيضاً في عمر الـ36... وكتبت عن عمق هذا الألم وعن صعوبة رتقه في روايتي رجيم الكلام... لا أدري كيف الموت والفقد في مرحلة الطفولة والشباب استطاع أن يوحد في ما بين تجربتنا الشخصية، فحين تصف طفولتها، شعرت كأنها تصف طفولتي خصوصاً حين تقول: «فمنذ صغر سني عكفت على الاختلاء بنفسي، منذ طفولتي حتى شبابي المبكر، كنت في آن واحد الفتاة الصغيرة المليئة بالحياة التي تغني بأعلى صوت في أعياد الميلاد، والطفل الرزين الذي يصيبه الملل. كان الكائنان يعيشان على قدر المستطاع تحت اسم واحد.

كما كتبت جملة كنت قد سبقتها في كتابتها وهي عن حالة النسيان التي أمحت ذكريات مهمة من حياتي، بينما أبقت تلك التي تبدو أقل أهمية عنها، وفي هذا الموضوع كتبت هي: «لماذا نتذكر بضعة أشياء تبدو في ظاهرها بلا قيمة بينما يُطوى في طي النسيان أجزاء كاملة من الطفولة؟

المضحك في هذه الشراكة أيضاً هو هذا التشابه، فوالدتها تلقبها بسيران رجال الإطفاء، للسخرية من نبرة صوتها الثاقبة.

وشبيه بهذا اللقب ما أطلقته زوجة والدي على صوتي الذي شبهته بجرس الكنيسة لرنينه الرفيع والحاد.

بحكم تشابه تجاربنا الإنسانية التي تختلف فيها الأمكنة والأزمنة، لكنها تبقى التجربة الإنسانية نتبادلها في كل مكان وكل زمان... فهل سيأتي اليوم الذي سيكتب فيه أولادي سيرتهم معي التي ربما أقبلها أو أختلف معهم في ما كتبوه عني، فأصرخ، من مكاني الغامض والمجهول: لا... ليس هذا صحيحاً، أو انه كلام غير مضبوط...

ولكن... حينئذ... وأنا في ذاك البعد السحيق... يا ترى من منهم حينذاك سيسمع... صوتي؟

وهذا هو أخطر جزء في كتابة السير الذاتية، حين يكتب الأقارب عن سيرة كاتب ما من وجهة نظرهم التي قد تكون خاطئة تماماً ولم تعكس حقيقة الشخصية التي كتبوا عنها، لأن كتابة السيرة تحتاج إلى وعي عميق وإلى إحساس مرهف وعقل تحليلي محايد بعيداً عن منطقة الانفعالات والعواطف، إدراك يفهم حقيقة شخصية الكاتب من تحليل كتاباته، ففي كل كلمة وجملة نجد جسد وفكر وعاطفة وروح الكاتب مدسوسة فيها.

الكتابة تفضح الكاتب وتعريه، أقصد أنها تكشف عن أبعاده الثلاثية، حتى إن كان خارجاً عن منطقة التغطية وباتت عظامه بودرة منثورة في وسع هذا الكون. 

back to top