من المهم أن نلاحظ، بكثير من التقدير، أن دول الخليج التي تعاني اضطرابات سياسية وتظاهرات هذه الأيام، قد التفتت نحو التجربة الديمقراطية الكويتية، على ما فيها وعليها، رغبة بالاستفادة من إيجابياتها ونجاحاتها... هذا الأمر يستحق الانتباه لأن له دلالاته المهمة جدا، خصوصا للداخلين في تحركات المطالبة بالتغيير والإصلاح.

Ad

التجربة الديمقراطية الكويتية، وبالرغم من كل قصورها ومن كل مثالبها التي نعترف بها، ومن كل المساحات الواسعة التي من الممكن السير فيها لمزيد من التطوير والمكتسبات، أقول بالرغم من هذا كله، يظل فيها خير كثير يجب ألا نتجاهله، أو نغفل عنه.

لا نقول هذا الكلام الآن، لنغلق الباب دون كل من يحاولون التحرك لمزيد من المكتسبات، أو لنعرقل مسيرتهم، إنما نقوله لنبين أن تجربتنا الديمقراطية لا يصح التعامل معها، دائماً وأبداً، وفقاً لمنظومة التصادم والتناطح والتهديم، إنما يجب التعامل معها أحياناً، ومنها الفترة الحالية التي يمر بها العالم من حولنا ويضطرب، وفقا لقوانين البناء والتعاون لأجل المزيد.

هذه الأيام تكثر المبادرات والدعوات للتحركات السياسية، وذلك تأثراً برياح التغيير العربية، ولطبيعة الحياة، يختلط فيما يطرح الغث بالسمين، والحق بالباطل، وتمتزج النوايا الطيبة بالخبيثة، والشيطان كما يقولون، يكمن في التفاصيل، والطريق إلى جهنم، كما يقولون أيضا، لطالما كان معبداً بالنوايا الطيبة... مرادي هنا من كل هذا هو التنبيه إلى أهمية ألا يجرفنا الحماس لاتباع كل ما يطرح دون تفكير أو تمحيص.

اليوم، وفي ظل هذه الثورات العربية المشتعلة، وجدنا من بدأ يطرح طروحاً عالية السقف جداً، بالرغم من أنه لم يكن يوماً من المعهود عنهم مثل هذا الطرح، ولا مشكلة عندي مطلقاً في مثل هذه الطروح، فأنا شخصياً كنت منتمياً لحزب سياسي- حزب الأمة- كان هو أول من طالب بصراحة، اعتبرها البعض آنذاك فجاجة بل وقاحة، بالحكومة الشعبية المنتخبة، وإشهار الأحزاب، والتداول السلمي للسلطة، والدائرة الواحدة، وتحمل عواقب هذه المطالبات بقسوة مفرطة حيث جرجر أعضاؤه، وأنا منهم، إلى أمن الدولة واتهموا بالتآمر على قلب نظام الحكم يومها، ولم يجدوا من يقف معهم.

ومازلت، وإن كنت تركت حزب الأمة تنظيمياً، أؤمن بهذه الطروح وأنادي بها، ولا أذكره تفاخراً، معاذ الله، ولكن لأبيّن بالدليل ألا اعتراض عندي مطلقا على هذا السقف المرتفع للمطالبات ولا على أصحابها، إنما لأنبه إلى أن بعض من يحاولون اليوم امتطاء هذه الموجة، هم ذاتهم ممن صمتوا عن الإشارة إليها، لا من قريب ولا من بعيد، طوال الزمن الماضي، بل إلى أن بعضهم هم ممن كانوا قد عارضوا الأفكار نفسها وازدروا حزب الأمة لأجلها، بل ألّبوا السلطة عليه!

مازلت أؤمن إيماناً مطلقاً بضرورة وصول نظامنا الديمقراطي إلى الحكومة الشعبية المنتخبة عن الأغلبية البرلمانية، وبضرورة قيام الانتخابات على أساس الأحزاب الشعبية وفقاً للدائرة الواحدة المفتوحة، التي تتساوى فيها قيمة وتأثير الأصوات، وتكافح من خلالها كل مثالب العمليات الانتخابية السابقة التي رأيناها تتكرر مرة تلو مرة، من شراء ونقل أصوات وفئويات وعصبيات وغيرها، لكنني مع ذلك فلا يمكن أن أقتنع أن تحقيق مثل هذا المراد يحصل بخبطة تغييرية واحدة تحت ضغط التهديد بتثوير الشارع مثلاً، إنما يجب أن يكون نتاجاً لعمل يقوم على خطة واضحة محددة، وفق جدول زمني معقول متوافق عليه، نعرف إلى أين يتجه.

النداءات العامة على غرار «نريدها حكومة جديدة، برئيس جديد، بنهج جديد»، يصلح أن تكون شعارات على لافتات قماشية يلوح بها في مظاهرة، لكنها لا تصلح أن تكون أبداً مطالبات سياسية جادة، فالتفاصيل هي الأساس. تفاصيل من سيكون الرئيس الجديد؟ وكيف سيأتي؟ وكيف سيتم تشكيل الحكومة الجديدة بعدها؟ وممن؟ وما النهج الجديد المراد؟ وكيف سيكون التوافق حوله وتطبيقه؟

وإن كان المطالبون بالحكومة الجديدة، والرئيس الجديد، والنهج الجديد، لا يكترثون بهذه التفصيلات، فهذا دليل على أنها مجرد استهداف شخصي لرأس الرئيس لا أكثر!

هذه التفاصيل القائمة على هذه السلسلة من الأسئلة العلمية الإدارية الصحيحة هي ما نحتاج أن نعرفه، وأن نستكشف ثناياه بحثاً عن الشياطين التي قد تكون قابعة فيها، ولا نريد الاندفاع في تأييد شيء مأخوذين ببريق سطحه الخارجي، دون إعطاء أنفسنا فرصة كافية للنظر في عمقه وإنضاج محتوياته والتوافق حولها، كما حصل في مسألة تعديل الدوائر، لنفاجأ بأنه لن يوصلنا إلى شيء بل لعله سينحدر بنا أكثر، كما انتهى تعديل الدوائر وفقاً لما طالبنا به منذ سنوات عدة إلى إنتاج برلمان مختطف تسيطر الحكومة اليوم على أغلب نوابه!