إشكاليات فتوى تحريم انفصال الجنوب السوداني

نشر في 17-01-2011
آخر تحديث 17-01-2011 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري بينما كانت عمليات التصويت في استفتاء مصير الجنوب السوداني تتواصل وسط مسيرات الفرح والرقص والأغاني ونحر الذبائح التي شارك فيها 4 ملايين ناخب جنوبي وقد أصبحت النتائج محسومة، كان بعض العرب يتظاهرون بالحزن رفضاً للانفصال وتهويلا لما يأتي بعده، ويتهمون المخططات الخارجية بالتآمر على تقسيم السودان في مسلسل لتمزيق الدول العربية وتفتيتها إلى دويلات بهدف استدامة الهيمنة واستنزاف موارد ومقدرات المنطقة وخدمة لإسرائيل.

يقولون: العراق أصبح في حكم المقسم عملياً إلى 3 أجزاء البعض منها واضح الولاء لإسرائيل والأكراد متمسكون بحق تقرير المصير ويبنون كيانهم المنفصل بشكل تدريجي ومرهون بما يسفر عنه رحيل الأميركيين، والسودان ليس في طريقه للتقسيم الشمال والجنوب فحسب فهناك مشكلتا دارفور وشرق البلاد مما يمهد لتقسيمه إلى 4 دويلات، أما اليمن فشبح الانفصال مخيم بين الشمال والجنوب وبين الحوثيين والدولة، وهناك الحركات الانفصالية الأمازيغية في الشمال الإفريقي، أما الصومال فهي مقسمة بالفعل، واستقلت «حماس» بغزة في انقلابها الدموي على السلطة، وقد مضى 4 أعوام واستعصت محاولات المصالحة الوطنية كافة، وتحولت اليوم إلى حماية لحدود إسرائيل من قذائف الفصائل الرافضة للتهدئة، أما لبنان فإن «حزب الله» قد شكل دويلته التي أقوى من الدولة.

قد يكون فيما يقوله هؤلاء بعض الصحة لكن المشكلة الأساسية أن هؤلاء ينشغلون بتحميل الخارج مسؤولية أوضاعنا المتردية أكثر من مسؤولية الداخل، هؤلاء يتجاهلون جذور النزاعات العربية ويتغافلون إرهاصاتها المبكرة، فالجنوبيون لم يختاروا الانفصال حباً فيه، بل اضطراراً بعد معاناة ومآس رهيبة على امتداد 5 عقود راح ضحيتها أكثر من مليوني سوداني سقطوا في حروب أهلية وحشية عبثية غير ملايين اللاجئين، وكلفت السودان العديد من المليارات إلى أن أدرك الطرفان أنه لا طائل من استمرار التحارب، فاتفقا بعد محادثات مضنية عبر الوسيط الأميركي عام 2005 في اتفاق «نيفاشا» على إعطاء الجنوبيين الحكم الذاتي لمدة 5 سنوات يقررون بعدها مصيرهم عبر إجراء استفتاء عام. لذلك لا يمكن تعليق ما يحصل اليوم من توجه الجنوبيين إلى الافصال على مشجب المؤامرة الدولية، فمطالب الجنوبيين بالاستقلال قديمة وليست وليدة اليوم كما لا يعقل أن هؤلاء الملايين الذين قرروا الانفصال متآمرون أو هم ضحايا مؤامرة أجنبية. هؤلاء الذين ينساقون وراء أوهام التآمر الخارجي المسيطرة على عقولهم ونفوسهم ويفسرون كل حدث في الساحة بأنه من تدبير «الموساد» والأعداء المتربصين بالعرب، هم في الحقيقة ضحايا النفخ الإعلامي الذي يصور العالم متآمراً ضد الإسلام، فلا غرابة أن ينساق بعض المشايخ والعلماء وراء تلك الأوهام ليحشروا أنفسهم في القضية، إذ ذكرت الأنباء أن هناك 70 من علماء الدين أصدروا فتاوى بتحريم التصويت لمصلحة انفصال الجنوب حفظاً لكيان السودان الموحد! لكن هذه الفتاوى ومع تقديرنا للمشايخ هي في النهاية «فتاوى سياسية» تثير إشكاليات مربكة ولا تحل قضية، ولعلنا نتذكر الفتاوى التي حرضت شبابنا للذهاب إلى العراق لمقاتلة الأميركيين بحجة الجهاد، لقد أضرت بالعراقيين وأهدرت أرواح الآلاف من الأبرياء وأودت بزهرة شباب المسلمين إلى الهلاك من غير أي هدف محقق!

الإشكاليات التي تثيرها فتاوى تحريم التصويت لمصلحة الجنوب عديدة:

أولاً: إن المفتي يجهل حقيقة القضية التي أفتى فيها وأبعادها وتاريخها، كل معرفته أن هناك مؤامرة خارجية تستهدف المسلمين في السودان لأنها ملتزمة بتطبيق الشريعة بقيادة حكومة إسلامية، لكنه لا يدرك أن هناك تاريخاً طويلاً من الحروب الطاحنة التي قتلت وشردت الملايين واستنزفت السودان حتى أصبح بوضعه المتردي حالياً، والسؤال الذي يجب طرحه على المفتي هنا: لماذا لا ندرأ بالانفصال الودي أخطار وكوارث الاقتتال، بل حتى الطلاق الذي هو أبغض الحلال يتعين إذا كان محققاً لحل الخلافات وقاطعاً للمشاحنات.

ثانياً: إذا كان ثمة تحريم في التصويت للانفصال فالأولى أن يوجه إلى الرئيس السوداني المسلم الحريص على أحكام الشريعة، والذي وافق على اتفاق «نيفاشا» قبل 5 سنوات وأعطى المواطن الجنوبي حق تقرير المصير، إذ لا مسؤولية دينية على ناخب أعطاه رئيسه حق الاختيار!

ثالثاً: أين كانت هذه الفتاوى طوال 5 سنوات؟ لماذا لم يتطوع السادة العلماء ليذهبوا لمواجهة الرئيس السوداني ليقولوا له بحرمة هذا الاتفاق الممهد للانفصال؟!

رابعاً: لا معنى لمنح حق تقرير المصير إذا كان الناخبون المصوتون سيلتزمون بفتاوى التحريم لأنهم في الحقيقة، في هذه الحالة، لا يملكون حق تقرير المصير فعلاً لأنه قد تقرر سلفاً بناءً على فتوى تحريمية فلماذا يذهبون للتصويت أصلاً؟!

خامساً: كيف يتصور السادة المفتون أن الملايين الـ4 سيلتزمون بفتاواهم والأغلبية منهم غير مسليمن؟ أي لا يعترفون بهم أصلاً، بل حتى المسلمون منهم في الشمال أو الجنوب لن يلتفتوا لفتاواهم لأنهم يرون مصلحتهم في الانفصال درءاً لأخطار الحروب والنزاعات الدامية، ولا أدل من أن مسلمي الجنوب أكدوا أنهم مع الانفصال إذ لا خشية عليهم في الجنوب حيث التسامح الديني والدستور الكافل لحرية الأديان، وأما في الشمال فقد ذكر الكاتب عثمان ميرغني: إن فرحة الجنوبيين بالانفصال قابلتها فرحة في أوساط محسوبة على النظام في الخرطوم، فقد كتب خال الرئيس عمر البشير، الطيب مصطفى مقالاً يدعو فيه الشماليين للفرح ونحر الذبائح وإقامة صلاة الشكر لأن الاستفتاء كان يوم فكاك الشمال!

سادساً: لا أدل على عدم جدية هذه الفتاوى السياسية بل عدم مصداقيتها الدينية أن الرئيس السوداني عمر البشير الحريص على تطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود الشرعية أعرب بنفسه عن استعداد حكومته للمشاركة في احتفالات الدولة الجديدة المحتملة! بل صرح في زيارته للجنوبيين في جوبا الذين استقبلوه بالفرح والزغاريد وبلافتات تقول: مرحباً بكم في الدولة رقم 193، إذ قال: سأكون حزيناً... لكنني سأحتفل معكم إذا اخترتم الانفصال! فإذا كان التصويت للانفصال محرماً بحسب الفتاوى الدينية فالأولى أن تكون مشاركة الرئيس السوداني في احتفالات الانفصال أشد تحريماً! سابعاً: أيهما أعظم تحريماً: انفصال غزة بالقوة الانقلابية وانفراد «حماس» بحكمها وتكوين دويلة هزيلة تقوم بقمع الفصائل التي تقذف المستوطنات الإسرائيلية ولا تريد أن تلتزم بالتهدئة أم انفصال جنوب السودان بالتراضي والاتفاق الودي بعد حروب كلفت السودانيين الأرواح والموارد؟! لماذا لم نسمع من السادة أهل الإفتاء المتحمسين لوحدة الكيان الإسلامي والرافضين للمشاريع الانفصالية التفكيكية باعتبار أن دولة الإسلام واحدة، لماذا لم نسمع منهم أي فتوى بتحريم ما عملته «حماس» في انقلابها الدموي على السلطة الفلسطينية واستقلالها بحكم غزة كدويلة انفصالية أصبحت تشكل انقساماً فلسطينياً حاداً؟! أم أن ذلك حلال لـ»حماس» الإسلامية وحرام على الجنوبيين المسيحيين؟!

ثامناً: لماذا يسيء السادة المشايخ والعلماء أهل الإفتاء الظن بالآخرين؟ ولماذا دائماً يتوقعون الأسوأ؟ ولماذا لا يتصورون أن هذا الانفصال قد يمهد لدولتين جارتين بينهما علاقات ودية وتعاون مشترك في المجالات كافة التي تعود بالخير والنفع على الشعبين؟!

لقد ذكرت الأنباء أن هناك مشروعا دولياً إفريقياً سيقدم لقادة الشمال والجنوب يتضمن مقترحاً بإقامة اتحاد اقتصادي ونقدي وتعاون مشترك، أشبه بكونفدرالية، ويقضي بأن تبادر الخرطوم أولاً بالاعتراف باستقلال دولة الجنوب قبل الآخرين فور إعلان نتيجة الاستفتاء ويتم تأسيس نظام شراكة اقتصادية أشبه بصيغة الاتحاد الأوروبي وسيكون نواة لاتحاد موسع يشمل دولاً مجاورة للسودان ويحقق بيئة سياسية صالحة للحوار والتفاهم والسلام والاستقرار في منطقة الجنوب المضطربة.

دعونا نستبشر بالسودان الجديد، السودان الحر الديمقراطي الذي يقوم على التنوع الثقافي والديني ويشكل نموذجاً للتعايش بين أتباع الأديان والقبائل المختلفة، ولا داعي للتهويل من تداعيات انفصال الجنوب السوداني وتضخيم التنبؤات السلبية، فإن الأمور تجري بسلاسة وهدوء في تجربة فريدة على مستوى العالم كله، ولقد أشار الرئيس البشير نفسه إلى هذا الأمر حينما قال: إن الشعب السوداني شعب متحضر وسيخذل كل التوقعات بحدوث أعمال عنف. وهذا هو ما يحصل بالفعل.

* كاتب قطري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top