كانت تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة تشهد موجات متناوبة من الرواج ثم الكساد طيلة عقود من الزمان، وفي العام الماضي شهد العالم موجة ازدهار أخرى، حيث اجتاحت موجة تسونامي من رؤوس الأموال، وأسهم الاستثمار، والاستثمارات ذات الدخل الثابت، بلدان الأسواق الناشئة التي يعتقد أنها تتمتع باقتصاد كلي قوي، وسياسات ثابتة، وأسس مالية راسخة.

Ad

وهذه التدفقات إلى الداخل تكون مدفوعة جزئياً بعوامل دورية قصيرة الأجل (تعمل الفروق في أسعار الفائدة، وقدر ضخم من السيولة التي تطارد الأصول ذات العوائد المرتفعة، وأسعار الفائدة التي بلغت الصفر، والمزيد من تدابير التيسير الكمي، على تقليص الفرص المتاحة في البلدان المتقدمة ذات الاقتصاد المتباطئ). ولكن هناك العديد من العوامل العالمية الأطول أجلاً التي تلعب أيضاً دوراً مهماً في هذا السياق، ومن بين هذه العوامل الفوارق الأبعد أمداً في نمو الأسواق الناشئة نسبة إلى اقتصاد البلدان المتقدمة؛ والاستعداد الأكبر من جانب المستثمرين لتنويع استثماراتهم إلى خارج أسواقهم المحلية؛ وتوقع ارتفاع القيمة الاسمية والحقيقية في الأمد البعيد لعملات الأسواق الناشئة.

وفي ضوء كل ما سبق فإن السؤال الأكثر أهمية فيما يتصل بالسياسات في الأسواق الناشئة اليوم يتلخص في كيفية التعامل مع التدفقات التي ستعمل حتماً على دفع أسعار صرف عملاتها إلى الارتفاع فتهدد بالتالي النمو القائم على الصادرات.

والخيار الأول هنا هو ألا تفعل الأسواق الناشئة أي شيء وتسمح لعملاتها بالارتفاع، وقد تكون هذه هي الاستجابة السليمة إذا كانت التدفقات والضغوط الصاعدة على أسعار الصرف مدفوعة بعوامل أساسية (فائض في الحساب الجاري، وعملة مقومة بأقل من قيمتها، وفوارق ضخمة ومستمرة في مستويات النمو).

بيد أن التدفقات إلى الداخل تكون في العديد من الحالات مدفوعة بعوامل قصيرة الأجل، وبدع غريبة، ووفرة طائشة، وهو ما قد يؤدي إلى المبالغة في تقدير قيمة العملة، ومزاحمة قطاعات التصدير غير التقليدية أو القطاعات المتنافسة مع الواردات، وخسارة القدرة التنافسية، وفي النهاية عجز ضخم في الحساب الجاري وبالتالي قيود خارجية أكثر إحكاماً على النمو.

وتتفاقم هذه المشكلة بفعل حقيقة مفادها أن الصين، أكبر دولة مصدرة على مستوى العالم، تتدخل بقوة لجعل أي ارتفاع في قيمة الرنمينبي (عملة الصين) ضئيلاً للغاية. وإذا لم تسمح الصين بارتفاع قيمة الرنمينبي، فإن الأسواق الناشئة الأخرى سوف تظل متخوفة من السماح لقيمة عملاتها بالارتفاع إلى درجة أعظم مما ينبغي وبالتالي خسارة القدرة على المنافسة.

إذا كان السماح لقيمة العملة بالارتفاع بحرية مكلفاً، فإن الخيار الثاني يتلخص في التدخل الثقيل في أسعار صرف النقد الأجنبي، وهذا الخيار فعّال في منع ضغوط سعر الصرف التصاعدية، ولكنه يغذي الوحش: فهو يسفر عن تفاقم فرط النشاط الاقتصادي في الأسواق الناشئة السريعة النمو بالفعل، فيتسبب بالتضخم ويؤدي إلى نمو ائتماني مفرط، وهو ما قد يعمل بدوره على تغذية فقاعات الأصول الخطرة.

أما الخيار الثالث فيتلخص في التدخل المعزول، وهذا الخيار يمنع النمو النقدي والائتماني، ولكن من خلال الإبقاء على الفوارق بين أسعار الفائدة مرتفعة، فإن التدخل المعزول يغذي التدفقات المستفيدة من الفوارق بين الأسعار، ويساهم بالتالي في تفاقم المشكلة التي كان من المفترض أن يعالجها.

والخيار الرابع يتلخص في فرض ضوابط رأس المال على التدفقات إلى الداخل (أو تحرير القيود على التدفقات إلى الخارج). وإذا نحينا جانباً مسألة ما إذا كانت مثل هذه الضوابط "فيها ثغرات"، فإن الدلائل تشير إلى أن الضوابط على التدفقات الداخلة من "أموال المضاربة" القصيرة الأجل لا تؤثر في الكم الإجمالي من تدفقات رأس المال إلى الداخل. وعلى هذا فإن مثل هذه الضوابط غير فعّالة في تقليص الضغوط الدورية القصيرة الأجل التي من المفترض أن تدفع قيمة العملة إلى الارتفاع.

والاختيار الخامس يدور حول إحكام السياسة المالية وتقليص العجز في الميزانية وذلك بهدف خفض أسعار الفائدة المرتفعة التي تدفع التدفقات إلى الداخل، ولكن السياسة المالية الأكثر سلامة قد تؤدي إلى ارتفاع التدفقات إلى الداخل مع تحسن التوازن الخارجي وتوقعات المخاطر السيادية للدولة.

وهناك خيار سادس- ولا سيما حيثما تنفذ أي دولة تدخلاً معزولاً جزئياً لمنع ارتفاع قيمة العملة بشكل مفرط- يتلخص في خفض خطر نشوء فقاعات الائتمان والأصول من خلال فرض الرقابة التحوطية من جانب النظام المالي، وينبغي لهذا الخيار أن يهدف إلى تقييد النمو الائتماني المفرط، الذي قد ينتج عن النمو النقدي الذي يتلو التدخل في العملة لولا ذلك، ولكن الضوابط المباشرة على النمو الائتماني كثيراً ما تتخللها الثغرات وقد تكون غير ملزمة في الممارسة العملية رغم أهميتها.

أما الخيار الأخير فيتلخص في التدخل المعزول الضخم على نطاق واسع- أو على نحو مكافئ، استخدام صناديق الثروة السيادية أو غير ذلك من آليات تثبيت الاستقرار المالي- بهدف تكديس الأصول الأجنبية المطلوبة للتعويض عن التأثيرات على قيمة العملة والناجمة عن التدفقات الطويلة الأجل إلى الداخل. والحجة المؤيدة لهذا الخيار هي أن العوامل العالمية الطويلة الأجل تشكل محركات مهمة لتدفقات رأس المال، مع اكتشاف المستثمرين في البلدان المتقدمة اقتصادياً أنهم أقل وزناً في أصول الأسواق الناشئة فيعمدون إلى تقليص محافظهم الاستثمارية في بلدانهم.

إن التدخل المعزول لا يفلح عادة: فإذا ظلت الأصول في البلدان المتقدمة والأسواق الناشئة قابلة للاستبدال التام، فإن تدفقات رأس المال إلى الداخل سوف تستمر ما دامت الفوارق في أسعار الفائدة قائمة، ولكن الطلب على أصول الأسواق الناشئة ليس بلا نهاية وليس قابلاً للاستبدال التام بالأصول في البلدان المتقدمة- حتى بالنسبة للفوارق في سعر فائدة معين- وذلك لأن مخاطر السيولة والائتمان المحيطة بهذه الأصول مختلفة تماما.

وهذا يعني أن التدخل المعزول المستمر في النقد الأجنبي- والذي يرقى إلى نقاط عديدة من الناتج المحلي الإجمالي- من شأنه أن يرضي عند نقطة ما الطلب الإضافي على أصول الأسواق الناشئة، وأن يمنع تدفقات رأس المال إلى الداخل، حتى لو ظلت الفوارق في أسعار الفائدة قائمة، ومع استحثاث هذا النوع من التدخلات لإصدار الأصول المحلية، فإن رغبة المستثمرين على مستوى العالم في التنويع سوف تلبى من دون الاضطرار إلى زيادات مفرطة في قيمة العملات، بكل ما يحمله ذلك من أضرار جانبية، في الأسواق الناشئة.

وبطبيعة الحال، لا ينبغي لنا أن نحاول منع ارتفاع قيمة العملات بالكامل، فحين يكون ذلك مبرراً بالعوامل الاقتصادية الأساسية، فلابد من السماح لأسعار الصرف بالارتفاع تدريجياً، ولكن عندما يكون ارتفاع قيمة عملة ما راجعاً إلى تدفقات رأس المال التي تمثل أفضليات تنويع الأصول لدى مستثمري البلدان المتقدمة، فلابد من مقاومة هذا الميل.

* نورييل روبيني | Nouriel Roubini ، أستاذ بكلية شتيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، ورئيس مرقب روبيني للاقتصاد العالمي، ويستند هذا العمود إلى دراسة أطول بعنوان «كيف ينبغي للأسواق الناشئة أن تدير تدفقات رأس المال ورفع قيمة العملات؟»

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»