كفَارين
أتذكر أنني في بداية متابعتي للإعلام الأميركي، بهرتني ملكة توظيف الكلمات فيه لدس رسالة محددة في اللاوعي الشعبي، ليأتي أثرها لاحقاً في تصرف وتأييد «واع» من العامة. مثلاً، كانت أخبار الحرب الإسرائيلية الفلسطينية تصاغ على النحو التالي: «قُتل عشرة جنود إسرائيليين على أيدي الفصائل الفلسطينية، ومئة فلسطيني ماتوا»، وكأن الأخيرين ماتوا بسبب سكتة مفاجئة أو ارتفاع في ضغط الدم. هذه الصياغة السياسية «الحصيفة» تتجاهل الحقائق تماماً وتظل تدس فكرة معينة يراد إيصالها بغض النظر عن أي حقيقة أو دفاع أو توضيح مرئي أو مسموع من الطرف الآخر، ففي النهاية، لا شيء أقوى من التكرار ليغسل الوعي العام باتقان.
حضرتني هذه الظاهرة وأنا أقرأ مقال مبارك الدويلة في «قبس» الأحد 29 أغسطس المعنون «لكم دينكم ولي دين»، الذي يبتعد تماماً عن الرسالة المحايدة «الليبرالية» للآية الكريمة. المقال يغص بالإشارات المباشرة وغير المباشرة التي تربط بين الفكر الليبرالي والفساد الأخلاقي وبين العلمانية والإلحاد، فمثلاً تقول اقتتاحية المقالة «في شريعتنا شرب الخمر من الكبائر، وكذلك لعب القمار والزنا والمخدرات... بينما عند بعض خصومنا تتم ممارسة هذه المنكرات ولا يرون فيها حرجاً»، وبالرغم من قِدم هذا الحديث وتكراره، فإن الاستخدام اللغوي هنا «بديع» جداً وحقيقة تكراره أبدع وأعظم أثراً. فمهما يرد «الخصوم» بأنه لا يمكن لإنسان عاقل وصاحب مبادئ أياً كان دينه أو «لا دينه» أن يقدم الشرب والقمار والزنا والمخدرات على أنها ممارسات طيبة لا حرج منها، فإن الدويلة ومن يستخدمون ذات الخطاب لا يلتفتون إلى رد «الخصوم» المتوقع والطبيعي في استنكاره لهذه التصرفات، ففي تكرار الربط بين الليبراليين وهذه الأفعال ترسيخ ناجح جداً لفكرة فساد الليبراليين على أشكالهم وتوجهاتهم المختلفة، وأسلوب التجاهل التام لما يقول الطرف الآخر وتكرار الفكرة ذاتها مقال بعد مقال، وحديث بعد حديث، هو أسلوب فائق النجاح في دس هذه الفكرة في اللاوعي عند الجمهور.مثلاً ينتهي مقال الدويلة بجملة «يعجز أقزام العلمانية والإلحاد» في عطف لغوي شديد التأثير والتوغل في عقل القارئ على بساطته وإيجازه. فلن يكون لبحث حول «زندقة الفكر العلماني» مهما طال وتفصل ذات الأثر لحرف الواو الصغير يربط العلمانية بالإلحاد بشكل متكرر ومستمر ليزرع الفكرة وإن كذبت ويرسخ النظرة وإن عميت. ومن جميل المصادفات أن نشرت جريدة «الجريدة» في اليوم نفسه وعلى صفحتها الأولى قصة إخبارية للزميل المبدع تركي الدخيل عن أحمد القبانجي وهو سيد معمم خريج حوزتي العراق وإيران حول تقديمه محاضرة في مجلس ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد ينتقد فيها الإسلام الأصولي، ويشدد على أهمية العقل وعلى مبادئ الحرية والديمقراطية، حيث إنه الأمين العام للتيار «الليبرالي» الإسلامي في العراق. هذا التوجه التقدمي للسيد القبانجي الشيعي ليس حكراً عليه أو على طائفته، فالكثير من علماء السنّة الإصلاحيين يؤكدون أهمية مبادئ الديمقراطية والحرية والعلمانية في بناء الدول الحديثة. وإذا كنت سأورد مثال السيد القبانجي ثم أردفه بتأكيد أن دستور دولة الكويت علماني الصبغة حتى بوجود إشارة إلى الدين العام للدولة، وأن الكويت المدنية منظمة في الغالب الأغلب بقوانين علمانية بحتة، وأن كل هذا لم يخرج أحدا عن دينه أو يضطهده، وإنما المقصد من علمانية القوانين هو المحافظة على مبدأ عدم التفرقة بين المواطنين على أساس من الدين كما ينص الدستور بحد ذاته، بعد إيراد كل هذا، هل سيرد الدويلة أو غيره تفنيداً لما ورد أم ستتكرر ذات الجملة الآلية: «العلمانية هي الإلحاد» والسلام ختام؟ في الغالب، ولأن جماعة «الجهورية» الإسلامية عندنا في غاية الذكاء والحصافة، فهم لن يردوا ولن يفندوا، فليس للأخيرين ذات أثر الترديد المستمر لتلك الجملة الوجيزة التي لا تتطلب أي مجهود يذكر... ولا بأس من «تحابيش» «الزنا والمخدرات» وبهارات «الخمر والقمار»، ويا حبذا لو هناك رشة «سفاح» لتعقد العقدة وتكتمل الطبخة ويدفن المنطق وشرف الحوار وأخلاقيات النقاش كلها في ليلة واحدة ويمشي «الطيبون» في جنازتهم... الفاتحة.آخر شيء:في نهاية العام الماضي، أتت صغيرتي ياسمينة «بخبر» كاد يوقف قلبي، قالت: (ماما، تدرين ان الناس اللي يحبون حرف الزائد (+) اهما «كفارين»؟)... فهمت منها أنها تقصد أن المسيحيين كفار، عنفتها بدلال وأنا أسألها من أين لها بهذا الحديث؟ فأخبرتني أن علياً، زميلها في المدرسة، أعلمها تلك الخبرية، وأنها تصدقه لأنه حصل على «خمسة من خمسة» في امتحان الدين، إذن لابد أنه يعرف الحقيقة... لطيفة ياسمينتي، أليس كذلك؟