الموجة الإيهامية التي صاحبت نشاط مثقفي الأدب الإبداعي، منذ عقود طويلة، والتي وضعت كاتبها في الصدارة بفعل قدرته على خلق المدينة الفاضلة، لم تخمد حتى اليوم. ولا أعتقد أنها ستخمد في يوم قريب. وفي القرن العشرين كان اليسار الفكري قد احتل مكانة لا تُضاهى في هذا المجال. مكانة وجدت جذورها في الثورة الفرنسية، وتفرعاتها في عصر الثورات الانقلابية، التي هيمنت على القرن العشرين في جملته.

Ad

قلة من الكتاب الذين دفعتهم بصيرتهم الثاقبة إلى الحذر من أهواء المثقف، والوقوف بجرأة في وجه هذه الموجة العارمة. كان الفيلسوف الفرنسي المنسي باندا، صاحب كتاب «حياة المثقف»، الذي عرّفتُ به في كتابي «تهافت الستينيين»، أحد الطلائع. وكان الشاعر البولندي ميووش أحد الأعمدة الباهرة، في وسط حمى اليسار الماركسي الطاغي. خاصة في كتابه «العقل المعتقل». وهناك آخرون، لعل بول جونسون، وقد تُرجم كتابه «المثقفون» إلى العربية، أقربهم للذاكرة.

ولقد سجل فوز ماريو فارغاس يوسا (مواليد 1936) بجائزة نوبل هذا الشهر، دعماً رائعاً لهذه البصيرة الجريئة. لأن يوسا الروائي، ويوسا كاتب المقالة النقدية، ويوسا السياسي، كان أبرز صوت في أميركا اللاتينية، بعد صوت أوكتافيو باث، لم يأخذه التعب من المقاومة ضد وهم وإيهام مثقف الأدب في القدرة السحرية على إنجاز التغيير الجذري للعالم عبر الأفكار، والتصابيات الثورية، التي أودت بجسد وروح دول العالم الثالث البائسة. كتب روايته ضد الدكتاتور، والعتمة المريعة التي فرضتها السلطات الشمولية. وكتب روايته أيضاً ضد أولئك الثوريين، ذوي الرؤى الحلمية، المتمردين على تلك السلطات.

الكثير من كتابنا العرب، على امتداد القرن العشرين حتى اليوم، يشبهون الكثير من كتاب أميركا اللاتينية، الذين هرّبوا مشاغل قرّائهم عن الهموم الحقيقية لحياتهم إلى مشاغل رؤيوية واهمة، باسم الثورة وتغيير العالم.

بعض أصدقائنا من الشعراء العرب يغبطون أنفسهم على دعوات المهرجانات الشعرية هناك. يقولون لي إن الجماهير التي لا تتوقف عن الإنشاد، والتي يقرأون لها الشعر، تغطيها الرايات، وتغطي هي بدورها ملاعب لكرة القدم. جماهير هتّافة بانتصار الثورة الشاملة، التي خرجت من شعاب الجبال براية حرب العصابات. وهم ينسون أن هذه الظاهرة عربية أيضاً. ولكن جماهيرنا اكتفت بحصاد الآلام، ولم تعد قادرة على الهتاف. تاركة الشعراء يرطنون بأحلامهم على المسرح الذي يوفره لهم الإعلام.

كان يوسا في مرحلته المتأخرة شديد الحذر من أهواء المثقف، وأحلامه الطوباوية. ولقد عكس ذلك في رواية «شيطنات الطفلة الخبيثة» بصورة مباشرة، لأنه أدخل في مجرى الرواية أحداثاً تاريخية فعلية، الأمر الذي ألفناه في أكثر من رواية له. رأينا كيف ركب أفراد شبان من الطبقة المتوسطة المرفهة موجة الأفكار الثورية، والتحقوا بالجبال لإسقاط النظام الديمقراطي غير الثوري آنذاك في البيرو. وكيف أن فاعليات التجمعات المسلحة في الأدغال والجبال لم تعمل سوى على استثارة القوى العسكرية في الحكم على الإطاحة بالنظام الديمقراطي، بحجة ضعفه. وانتهت التجمعات أخيرا، وكالعادة، إلى التضحية المجان بشبانها المضيَّعين.

فكرتان، كما يرى أحد النقاد، تحفر مجراها عبر معظم رواياته: افتتانه بهذا التوق الإنساني للاستقلال، سياسياً، اجتماعياً أو إبداعياً. ثم التحرر والانعتاق اللذان يحققهما الفن والمخيلة. على أن القدرة على السرد الحكائي تظل هماً مركزياً.

كما يُفرد الناقد روايتين يعتبرهما أهم إنجازاته: تحفة كوميدية بعنوان «الخالة جوليا وكاتب المخطوطات». وهي رواية مستوحاة من سيرة شخصية. ورواية تراجيدية تاريخية هي «حفلة التيس». الأولى للأسف لم تترجم إلى العربية بعد، بينما حصلت الثانية، على أثر ترجمتها، على سمعة عربية واسعة.

لم أقرأ إلا عدداً محدوداً من روايات يوسا. على أني شديد الحرص على متابعة مقالاته التي لا تقل تأثيراً. إنه كاتب معلّم.