... اترك!


نشر في 11-01-2011
آخر تحديث 11-01-2011 | 00:01
 د. ساجد العبدلي عند الغربيين عبارة شهيرة تقول «Let Go» أي «اترك»، يقولونها لمن يرفض أن يتنازل عن موقفه وعناده أو عن ارتباطه بماضيه الذي قد رحل، وبالفعل، فإن أسعد الناس، من يستطيع أن يترك، وأن يعقد صداقة ويعيش في انسجام مع ذكرياته، سعيدها وحزينها، ويقبل على حاضره بروح جديدة تريد السعادة في أيامها القادمة حقا. يوم كنا طلبة كان ارتباطنا بكلية الطب كبيراً جداً، لا أعني الارتباط بين الطالب ومدرسته، إنما كان ارتباطا من نوع خاص فريد، وذلك لأن اليوم الدراسي كان طويلا جدا، حيث يبدأ من الثامنة صباحا إلى الخامسة مساء، ليستمر الكثير منا بعد ذلك في البقاء في الكلية للمذاكرة، وأذكر أني كنت وبعض الزملاء نبيت أحيانا في ليالي الامتحانات في قاعات المذاكرة وفي مكاتب هيئة التدريس الفارغة، ليس لأن «قلوبنا عودة» وليس لأننا «أمواس» دراسة «ونحك حك»، ولكن لأن الدراسة في الكلية ومع الأصحاب كانت لها طقوس لا يلبيها أي مكان آخر, وهكذا كان ارتباطنا بالكلية أكثر من ارتباطنا ببيوتنا، كنا نرتبط بها وببعضنا بعضا وبالهيئة التدريسية وبالموظفين، وحتى برجال الأمن الذين كانوا يعرفوننا واحدا واحدا.

وحينما تخرجنا من السنة السابعة وتوزعنا على المستشفيات المختلفة للتدريب، استمر الكثير منا بالتردد على الكلية، والجلوس في لوبي كلية الطب الشهير وتناول الطعام في الكافتيريا ذاتها، حتى سافر أغلبنا إلى الخارج لإكمال دراستهم التخصصية، ويوم عدت من دراستي التخصصية في بريطانيا بعد ذلك بأعوام، ذهبت إلى كليتي القديمة، فاستوقفني أحد رجال الأمن عند الباب طالبا هويتي بحكم الإجراءات المتبعة مع الزوار، فتضايقت كثيرا حينها، وقلت له إنني خريج من هذه الكلية، وإني قضيت عمري فيها، وغيره من الكلام «اللي يقطع القلب»، ولا أذكر الآن إن كانت كلماتي تلك، ودموعي وأحزاني، قد شفعت لي عنده حينها أم لا.

زرت الكلية بعدها بسنوات فتكرر الموقف، وطلب أحد رجال الأمن هويتي، وهذه المرة لم أحاول حتى إخباره عن كوني من أبناء الكلية، بل أعطيته ما أراد طوعا واستلمت منه بطاقة هوية كُتِب عليها بخط كبير كلمة «زائر»، قمت بتعليقها على صدري. لا أريد من هذه القصة أن أجعلكم تشاركونني حزني على «اللي مضى وكان» إنما أريد أن أصل معكم لشيء آخر.

ألستم معي في أنه قد يكون في حياة كل إنسان أشياء أو أشخاصاً، وبعد أن كانت وكانوا يلتصقون بنفسه وذاته وروحه إلى حد الامتزاج دارت به الدنيا فأرغمته على أن يتخلى عنها وعنهم، أجبرته على أن يتقبل وضعا جديدا، كشأني يوم صرت «زائرا» في ذات الكلية التي عشت فيها سبع سنوات من عمري؟! هذا حالنا جميعا، فالتمسك بخيوط الذكريات المنسوجة في الذاكرة، والبكاء على الأطلال، وغيرها من معزوفات الحنين للسابق، أمور يمر بها جميع الناس، ولكن بمقادير مختلفة، فلا يوجد في قناعتي إنسان، مهما بدا للناس صلبا قاسيا شديدا، قادر على تجاوز ماضيه حتى دون خفقة واحدة من قلبه حنينا إلى ذلك الماضي، فالإنسان يبقى كتلة من المشاعر والأحاسيس. إلا أن المشكلة فيمن يبقى أسير الماضي، فيرفض التغيير ويظل يقاوم الواقع الجديد. يستمر في صراع في كل الاتجاهات متشبثا بذكرياته في مواجهة واقع جديد جاء ليفرض نفسه رغما عنه، ليخسر كل شيء في النهاية، تضيع من يديه فرصة الاستمتاع بالحاضر، كما ذهبت منه أيام الماضي إلى غير رجعة.

عند الغربيين عبارة شهيرة تقول «Let Go» أي «اترك»، يقولونها لمن يرفض أن يتنازل عن موقفه وعناده أو عن ارتباطه بماضيه الذي قد رحل، وبالفعل، فإن أسعد الناس، من يستطيع أن يترك، وأن يعقد صداقة ويعيش في انسجام مع ذكرياته، سعيدها وحزينها، ويقبل على حاضره بروح جديدة تريد السعادة في أيامها القادمة حقا.

back to top