رسالة إلى الإمام عبد الرؤوف: التراجع قوة

نشر في 20-09-2010
آخر تحديث 20-09-2010 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري لم يكن الإمام فيصل عبد الرؤوف- وهو داعية إسلامي أميركي سمح من أصل عربي، مولود في الكويت لأب أزهري، عاش في الكويت قبل الانتقال إلى المملكة المتحدة ثم مصر ثم ماليزيا حيث عمل في كل هذه الدول، يجيد اللغات العربية والإنكليزية والمالايو، وأخيراً استقر في نيويورك عام 1965 حيث حصل على بكالوريوس في الفيزياء والماجستير، ويعد رمزاً من رموز الاعتدال الإسلامي وداعية للتسامح الديني وتدعيم العلاقات بين أتباع الأديان المختلفة، ومن أبرز المدافعين عن الحريات الدينية، ومن أوائل الذين أدانوا مرتكبي هجمات 11 سبتمبر، واعتبرهم لا يمثلون الإسلام.

 يتوقع حجم المعارضة الكبيرة لمشروعه الإسلامي الحضاري (مركز قرطبة الإسلامي) والذي سعى جاهداً لتشييده في (غراوند زيرو) قرب موقع هجمات 11 سبتمبر عند مركز التجارة العالمي، عندما خطط عبدالرؤوف لإقامة مشروعه الذي يضم مسجداً ومكتبة وقاعة للمحاضرات ومدرسة ونصباً تذكارياً لضحايا اعتداءات 11 سبتمبر، فإنه أراد أن يكون مركزاً للحوار الديني وملتقى للديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام وجسراً للتسامح وعنواناً للتعايش بين أتباع الأديان المختلفة، كما كان يهدف بإقامة هذا المركز بالقرب من موقع هجمات 11 سبتمبر تأكيد براءة الإسلام من فعلة المعتدين الذين أساؤوا إلى الأميركيين كما أساؤوا إلى المسلمين.

 كانت فكرة الإمام أنه بعد مرور هذه السنوات التسع على الكارثة المأساوية فإن النفوس تكون قد هدأت، وقد آن الأوان لصوت التسامح والاعتدال أن يعلو ليبصر الأميركيين بحقيقة الدين الإسلامي الذي يحاول البعض تخويفهم منه، وهو يدعوهم إلى عدم مساواة المتطرفين بالمعتدلين ويقول: إن الذين نفذوا هجوم 11 سبتمبر هم من المتطرفين الذين لا يمثلون ديننا على الإطلاق، ولا ينبغي أن نسمح لهم بأن يملوا علينا إسلامنا، ويضيف: المعركة الحقيقية التي يجب أن نخوضها ليست بين المسلمين وغير المسلمين، المعركة بين المعتدلين من كل الديانات والمتطرفين من كل الديانات.

 ذهب إمام مركز قرطبة في جولة واسعة وطويلة في العالم الإسلامي وحصل على تأييد واسع لمشروعه من قبل سياسيين ورؤساء دول، وعاد ليواجه بحملة إعلامية شرسة ضد مشروعه حمل لواءها قس مغمور في كنيسة صغيرة بفلوريدا، أراد هذا القس أن يركب الموجة ويستغل ذكريات اليوم الحزين ليغذي نيران الكراهية لهدف الشهرة والشعبية وكسب التمويل لكنيسته، فهدد بإحراق نسخ من القرآن الكريم في الذكرى التاسعة لهجمات 11 سبتمبر، وعندما أحاطت به الضغوط وتصاعدت الإدانات من داخل أميركا وخارجها حاول أن يساوم على المركز الإسلامي  في مقابل تراجعه عن تهديده، لكن الله خيب آماله ومرت الذكرى بسلام.

 لقد أظهرت نتائج الاستطلاعات الأخيرة أن أغلبية كبيرة من الأميركيين يعارضون بناء المركز في هذا المكان الحساس المثير لمشاعرهم، والذي يذكرهم بفعلة الانتحاريين المسلمين، لكنهم لا يمانعون أن يكون المركز في موقع آخر، علماً أن نيويورك فيها أكثر من 120 مسجداً، وعدد المساجد في أميركا يفوق 1200، إن الإنصاف يقضي بأن نعذر هؤلاء الرافضين، فمعظمهم يختزنون صورة مشوهة عن الإسلام ولديهم جهل كبير بحقيقته، وليس من الحكمة أن نلومهم أو أن نستفزهم، وعلينا أن ننقد أنفسنا لقصورنا وعجزنا عن تصحيح صورة الإسلام والمسلمين، إذ تركنا الساحة للغلاة المتطرفين، دعاة صدام الحضارات فأساؤوا إلينا كما أساؤوا إلى قيم ومبادئ وتعاليم الإسلام دين الله الخالد.

 لا شك في صدق نيات الإمام وجماعتة، ولا جدال في نبل مقاصدة وأهدافه، ولا تقليل من أهمية مشروعه في تدعيم صورة الإسلام السمحة في أميركا وإيجابياته في توطيد علاقات التعاون والتقارب بين أتباع الديانات، خصوصا أن المجتمع الأميركي مجتمع مفتوح لا يحمل مشاعر عدائية ضد المسلمين، والرئيس الأميركي أوباما يعد نموذجاً في هذا الشأن، وقد كرر في أكثر من مناسبة حق المسلمين في إنشاء دور عبادة في أي مكان وفقاً للدستور الأميركي، كل هذه الأمور والاعتبارات محل تقدير وتأييد من الجميع لكن المسلمين اليوم في أميركا في أعقاب تداعيات الحملة الإعلامية التي غذت المشاعر العامة بأمور سلبية وزادت درجة الاحتقان تجاه مشروع المركز وتجاه الإسلام، في وضع ينبغي على الإمام وزملائه أن يقفوا وقفة مراجعة ويستعرضوا الخيارات الأخرى والمحققة لأهداف المركز من دون أن يفسر ذلك بعدم مراعاة آلام الآخرين، أو يحمل على محمل التحدي أو الاستفزاز.

 الأمور تقاس بنتائجها لا بنواياها الطيبة، وليس من حسن التبصر الإصرار على بناء مركز إسلامي في موقع، القوم له كارهون، فالإيجابيات ستنقلب سلبيات والأهداف المنشودة لن تحقق ثمارها المرجوة، وسينشغل المركز عنها وعن وظائفه بالدفاع والرد على المعارضين الذين يتحينون الفرص للهجوم على المركز، الإمام عبدالرؤوف خير من يعرف المعيار الفقهي الرائع الذي أهداه إلينا الفقهاء القدامى رحمهم الله لموازنة الأمور، وحسن التقييم، والحكم على الأشياء، معيار (سد الذرائع) والذي بمقتضاه قد لا نقدم على أمر قد يكون محموداً لأن سلبياته أكثر، أو أن سيئاته تمحو حسناته، وفي تصوري أن إقامة المركز في هذا الموقع الذي لايزال يحمل بصمات وآثار هجمات 11 سبتمبر الإرهابية طبقاً لعثمان مرغني، ليس أمراً حسناً وفي هذا الوقت بالذات الذي بدأت فيه الحملات الانتخابية للتجديد النصفي للكونغرس الأميركي، نظراً لأن المرشحين يستخذون مواقف معينة من المشروع على ضوء ميول ومشاعر الناخبين منه.

 وليسمح لي الإمام عبدالرؤوف أن أخالفه الرأي عندما يقول "إن التراجع عن بناء المركز الإسلامي سيفسره المسلمون بأن أميركا تحارب الإسلام وسيغذي المتشددين في العالم الإسلامي وسيعرض مصالح أميركا للخطر"، لماذا لا يكون العكس هوالصحيح؟ بناء مسجد وسط أغلبية كارهة يغذي مشاعر الكراهية ويزيد النقمة ولن يحقق الأثر المقصود، ثم إن المتشددين لن يكبح جماحهم بناء المسجد في ذلك المكان الحساس، ولن يخفف من تشددهم لأنهم يحملون فكرة سلبية مسبقة عن المركز ويرون فيه فخاً أو مؤامرة أميركية ضدهم تحت غطاء إسلامي، وسيطلقون عليه (مسجد الضرار) وسيحذرون منه، بل سيتخذون منه آداة للنقد والسخرية، والذين يعتقدون أن أميركا عدوة للإسلام والمسلمين، لن يغير بناء المسجد في هذا المكان من قناعاتهم، لأن هؤلاء الذين يحرضون على كراهية أميركا في خطبهم ومؤلفاتهم إنما ينطلقون من قناعات أيديولوجية معينة ولأهداف سياسية حزبية لا علاقة لها ببناء المسجد أو عدم بنائه.

 ليس المطلوب التراجع عن بناء المركز لكن السؤال: ما جدوى بنائه في هذا المكان المثير للجدل؟ إن أرض الله واسعة، فابن يا إمام مركزك حيث القلوب المحبة والنفوس الصافية تكسب كثيراً وتحقق أهداف دينك، وكما تقول الكاتبة السعودية أمل عبدالعزيز الهزاني، في مقالة رائعة- كلهم يحرقون القرآن- "التهديد بحرق القرآن الكريم جريمة حتى قبل التنفيذ لأنه استفزاز لمشاعر أكثر من مليار إنسان، تماماً كما أن مشروع بناء مسجد في موقع برجي التجارة بنيويورك استفزاز لمشاعر الأميركيين المعتدلين بل وأشعل التطرف في نفوس الصامتين كما حصل مع القس جونز الذي ربط تعليق حرق القرآن بتغيير موقع بناء المسجد، هذا المسجد جلب المفاسد حتى قبل إقامته، أضر بمصالح المسلمين وهومجرد "تهديد" بالبناء مثل التهديد بحرق القرآن، وسيظل يجر وراءه البلايا حتى تنطفئ فكرته".

 وفي جملة رائعة تقول الكاتبة "دعوا المكان خاوياً من ضجيج الجدال والنزاعات ليجد أهالي الضحايا مساحة يضعون فيها باقة من الزهور كل عام دون أن تختلط مشاعر حزنهم بالضغينة، لا تضيقوا عليهم مساحات الذكرى، هذا المركز الإسلامي المزمع بناؤه سيتحول إلى مركز محاماة للدفاع عن الإسلام، ولكنه سيكون دفاعاً ضعيفاً، لأن المحامي يترافع وقدمه فوق جثة الضحية".

لقد كان من تداعيات المشروع، التهديد بحرق نسخ من المصحف الشريف وخروج مظاهرات هنا وهناك، إذ نقلت الأنباء أن 14 شخصاً قتلوا في مظاهرات كشمير احتجاجاً على التهديد بحرق القرآن كما هددت حركة الشباب المجاهدين الصومالية بإعلان الجهاد ضد الولايات المتحدة إذا عاد القس إلى خططه لإحراق نسخ من المصحف الشريف، لقد كنا في غنى عن كل هذا الذي حصل، والمنطق يقضي بتهدئة الأمور وعدم التصعيد والحكمة تقضي بحسن معالجة القضية، إذ ليس من المقبول أن نعمد إلى مكان حصلت فيه فاجعة من أكبر فواجع القرن لنبني فيه أو بالقرب منه صرحاً يذكر الأميركيين بتلك الفاجعة، لذلك أناشد الإمام عبدالرؤوف، كما ناشده كثير من كتاب العرب، اتخاذ موقف شجاع وإعلان التراجع عن بناء المركز في هذا المكان المثير لكل هذا الجدل، والتراجع هنا ليس ضعفاً ولا استسلاماً بل هو موقف تبصر وقوة وقطع لدابر الفتنة.

*كاتب قطري

back to top