ما قل ودل: علانية الجلسات وقرار المجلس الأعلى للقضاء

نشر في 17-10-2010
آخر تحديث 17-10-2010 | 00:01
 المستشار شفيق إمام  في تناولي للتغطية الإعلامية لمحاكمتي العصر، أو. جي. سمبسون وهشام طلعت في مقالي الأحد الماضي باعتبار ما يربطهما من أوجه شبه كثيرة، ففيهما الإثارة والجنس والخيانة والغدر والثروة والنجاح والشهرة، وكلاهما سبقتهما وعاصرتهما محاكمة على قنوات التلفزيون وعلى صفحات الصحف.

 وكان من تداعيات المحاكمة الأولى في أميركا ذلك النداء الذي وجهه الرئيس بيل كلينتون للشعب الأميركي بالتهدئة والثقة بالعدالة، ومسيرة المليون أسود إلى واشنطن برئاسة لويس فرقان زعيم "أمة الإسلام" لإثبات قوة السود.

كما كان من تداعيات المحاكمة الثانية في مصر ذلك القرار الذي أصدره المجلس الأعلى للقضاء، بحظر نقل أو بث أو إذاعة وقائع المحاكمات في كل مراحل التحقيق أو المحاكمة بما من شأنه أن  يخل بهيبة أو مقام أي من القضاء أو رجال النيابة العامة أو التأثير فيهم أو في الشهود أو الرأي العام، وهو ما أثار شبهة حول عدم دستوريته، وهي الشبهة التي نحاول أن نميط اللثام عنها في هذا المقال.

علانية الجلسات تجسيد لديمقراطية القضاء: وهي العلانية التي تحرص الدول الديمقراطية على النص عليها في دساتيرها وقوانينها، تجسيداً للمبدأ الديمقراطي في الرقابة الشعبية على السلطات كافة، ومنها السلطة القضائية، فالمداولة في الأحكام وإن كانت تتم في كُنٍّ مستور، إلا أن النطق بها يجب أن يكون في جلسات علنية، وأن المحاكمات التي تصدر فيها هذه الأحكام يجب، كأصل عام، أن تكون تحت سمع وبصر الرأي العام، وأن يسمح لمن يرغب من الأفراد في حضور المحاكمة ومتابعة ما يدور فيها، بما يخلق رأياً عاماً قادراً على بسط حمايته على العدالة ورقابته لكيفية سيرها والتزام القضاة بالحياد والنزاهة في إدارتهم للجلسات وسماعهم للمرافعات.

وقد حرصت على هذه العلانية دساتير مصر المتعاقبة، وكان آخرها دستور سنة 1971 الذي ينص في المادة (169) على أن "جلسات المحاكم علنية إلا إذا قررت المحكمة جعلها سرية مراعاة للنظام العام أو الآداب، وفي جميع الأحوال يكون النطق بالحكم في جلسة علنية".

والبادي من نص الدستور المصري، أنه لم يترك للقانون تحديد الحالات التي يصدر فيها الحكم بصفته سرية، بل حسم الأمر بأن قصر هذه الحالات على مراعاة النظام العام أو الآداب، وهو الأمر الذي تقدره المحكمة التي تتم أمامها المحاكمة أو المعروض عليها النزاع.

إلا أن بعض الدساتير تقتصر على ترديد الأصل العام وهو علانية الجلسات، وتترك للقوانين تحديد الأحوال الاستثنائية التي تجري فيه المحاكمة في جلسة سرية ومنها دستور الكويت الذي ينص في المادة (165) على أن "جلسات المحاكم علنية إلا في الأحوال الاستثنائية التي يبينها القانون".

العلنية في الإسلام: ولقد حرص القضاء في صدر الإسلام على هذه العلانية في قضائهم فاتخذوا من المسجد مجلساً للقضاء لأنه مكان لا يمنع عنه أحد، وفيه كان يقضي رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) كما كان يقضي فيه الخلفاء الراشدون، وكان سيدنا علي ابن أبي طالب يقضي في السوق.

وقد أنكر سيدنا عمر بن الخطاب على أبي موسى الأشعري وعلى سعد بن أبي وقاص اتخاذهما دارهما مجلساً للقضاء لما يترتب على ذلك من احتجاب الناس عن حضور هذا المجلس، فامتثل كلاهما لأمر الخليفة.

وعندما كان بعض القضاة- بعد ذلك- يعقدون مجلس القضاء في دارهم حرصوا على أن يتخذوا له مجلساً يطل على الطريق وأمام باب للدار، حتى يتاح لكل من يرغب من الناس في حضور المجلس.

سرية الجلسات: بيّنا فيما تقدم أن علانية الجلسات هي الأصل العام في الدساتير كافة، وأن تقرير سرية الجلسات، هو استثناء من أصل عام، وهو أمر تقدره المحكمة التي تنظر النزاع أو تجري أمامها المحاكمة، مراعاة للنظام العام أو الآداب في بعض الدساتير، أو في الأحوال الاستثنائية التي يبينها القانون في دساتير أخرى، وهو أحوال لا تخرج عن مراعاة النظام العام أو الآداب، مثل المحاكمات في جرائم العرض أو محاكمات الأحداث، أو في المحاكمات التي قد يترتب على العلنية فيها إفشاء أسرار عسكرية.

وقد كان العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر من الأمم المتحدة بتاريخ 16 ديسمبر سنة 1966 مفصلاً للأحكام المتعلقة بجواز عقد الجلسات بصفة سرية، حيث أضاف إلى اعتبارات النظام العام والآداب، الأمن القومي ومقتضيات الضرورة ومصلحة العدالة فيما نصت عليه المادة (10) من هذا العهد من أنه "يجوز منع الصحافة والجمهور من حضور المحاكمة كلها أو بعضها مراعاة لاعتبارات الآداب العامة أو النظام العام أو الأمن القومي في مجتمع ديمقراطي أو عندما توجب ذلك مصلحة حماية أرواح الفرقاء في الدعوى، أو لمقتضيات الضرورة البحتة، حسب رأي المحكمة، في الظروف الخاصة التي تؤدي العلنية فيها إلى الإخلال بمصلحة العدالة.

علو المكانة الاجتماعية للخصوم: إلا أن علو المكانة الاجتماعية لأحد الخصمين أو لأحد الشهود لا يمكن أن يكون سبباً لعقد جلسة المحاكمة بصفة سرية، تحقيقا لمبدأ المساواة أمام القانون وأمام القضاء.

وقد رفض القاضي يحيى ابن أكثم أن يقضي بين الخليفة المأمون وخصم له في دار الخلافة، عندما أمره الخليفة بذلك، إلا بعد أن فتح الباب للعامة ونادى المنادي في الناس لمجلس القضاء، ثم قضى بين الخليفة وخصمه في علانية.

وأساس ذلك أن علو المكانة الاجتماعية يأتي معها التشديد في العقوبة، لا التخفيف منها، كما كان يحدث أيام الجاهلية، مصداقاً لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

ويقول المولى عز وجل "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا"... صدق الله العظيم.

وجوب صدور الحكم في جلسة علنية: والنص في الدستور المصري على صدور الحكم في جلسة علنية في جميع الأحوال، وإغفال هذا الحكم في الدستور الكويتي، لا يعني ترك التقدير للقاضي في أن يصدر أحكامه وراء جدران مغلقة، مهما كانت الأسباب والدوافع، بعد أن أسدل الحكم الستار على مراحل الدعوى كافة من تحقيق ومحاكمة، بما لا يجوز معه أن يكون النظام العام أو الآداب عائقاً دون صدور الحكم في جلسة علنية، ولو كانت الدعوى قد نظرت في كل مراحلها أو بعضها في جلسة سرية، لما ينطوي عليه صدور الأحكام في جلسات سرية من إهدار لمبدأ ديمقراطية القضاء، وللرقابة الشعبية التي يمارسها الرأي العام على أعمال السلطة القضائية، فضلا عن أن ذلك يفوِّت إحدى وظيفتين للعقوبة وهي تحقيق الردع العام، وقاية للمجتمع من تكرار ارتكاب الفعل المعاقب عليه بما تحققه العلنية من ردع عام، إلى جانب الردع الخاص الذي توقعه العقوبة بالجاني.

وأيا كانت الدوافع والبواعث النبيلة وراء قرار المجلس الأعلى للقضاء بحظر نقل أو بث أو إذاعة وقائع المحاكمات، وقبل أن نتطرق إلى أهداف هذا القرار، فإن السؤال المطروح هو هل يلزم هذا القرار القاضي، وألا يتعارض هذا الإلزام مع استقلال القضاء؟

نجيب عن هذا السؤال في مقال قادم بإذن الله.

back to top