يكتب الشاعر الراحل سركون بولص بمخيلة هائلة، مُخيلة تستدعي عوالم وكشوفات لم نصادفها من قبل، شاعر ضيّع مفاتيح العودة وظل هناك تائهاً عبر الجبال والوديان يقودنا من مكان إلى آخر بشفافية جارحة ونفَس غابوي، شعر منفلت وحالم ومدهش قرابته والحلم بعيدة الغور، تجربة مرتبطة أساساً بمسيرة التنقل الدائم ذاك الذي يضرب حوافره في تلك الجهات القصيّة المطلّة على تخوم واقع شبيه بالأسطورة. وإذا كانت قصيدة سركون «حركة معقّدة» غرائبية فلأنها مليئة بالنقض والتوحش، مليئة بالقوة وبكائنات غريبة وأمكنة يتعايش فيها الوهم والحقيقة وهذيان لا يتوقف إلا ليبدأ من جديد، انه شعر يجدف نفسه باستمرار بحثاً عن وجوده الخاص، المنخور بالألم والمتغذي عبر هذا كله بمفاجآت تظل تتوالد مثل خلية من الكلام. رحلة طويلة وشاقة ترتطم بأسئلة الحياة. وفي شعر سركون هناك أيضاً طبقات الحنين الكثيفة هذه، حنين مبتور لكنه مستعاد بقوة المُخيلة والقول الشعري، هذه العودة الدائمة إلى ما يؤلم كما عبّر سركون في أحد أحاديثه، ولذلك يبدو قلق اللغة عند شاعر كسركون متموقعاً في التقاط حركة الحياة، إنها لغة تتبع مسار الشاعر أينما ذهب وقد تخلصت من البلاغة والغنائية السهلة التي تظهر في كثير من النصوص الشعرية العربية الحديثة.

Ad

من المؤكد هنا أن التجربة الأميركية قد دفعت لغة سركون إلى الطرف الأقصى من المغامرة وهو الذي استوعب بعد عشرين سنة أو أكثر التجربة الشعرية الأميركية وحاورها. هكذا لا مجال إذن للغةٍ تنبؤية ومتعالية بل تفجير ذكي لمنابع الكلام، لهذا «اليومي» الحاضر أبدأ بقوة، بحيث لا يتم إهماله أو نسيانه بل بالعكس إمساكه وتحويله بقوة الكلمة إلى تصعيد جمالي خلاق، تصعيد شعري لا يحدث عن طريق استحضار صور شعرية مقذوفة بنوع من المجانية السريعة بل بدقة وشفافية عاليتين.

في دراسة باللغة الإنكليزية كتبتها الناقدة والشاعرة ميرين غصين قبل سنوات بعنوان «ديناميكية الحركة في شعر سركون بولص «مع نماذج شعرية ترجمها إلى الإنكليزية الشاعر نفسه وميرين الغصين وآخرون، صدرت عن المؤسسة العربية الأميركية للشؤون الثقافية، في هذه الدراسة تصف الكاتبة شعر سركون بولص بأنه يمتاز بكثافة حسية وحركية داخلية متوترة هي تعبير وفيّ عن زخم الحياة وإيقاعها المعقد. هكذا تتبدى فرادة القول الشعري عند سركون منذ الستينيات حينما نشر قصيدته «آلام بودلير وصلت» في مجلة شعر شتاء عام 1969 من حيث امتلاكه للأداة الشعرية التي ستقوده لاحقاً إلى اجتراح صيغ شعرية شديدة الخصوصية والخصوبة معاً، وتحديداً في مجموعته «الوصول إلى مدينة أين». أما في «الحياة قرب الأكروبول» فإن الشاعر يرصد حيوات ومشاهد تدفعه أحياناً إلى استرسال نثري فيه نوع من السرد المحتفظ، بالتأكيد بشحنة شعرية وهاجة. إذ تبدو القصيدة أحياناً كما لو أنها تتخذ شكل حكاية أو أقصوصة كما في قصيدتي «بستان الآشوري المتقاعد» و»حياة الميكانيكي عبدالهادي من باب الشيخ»، ولا غرابة في الأمر خصوصاً إذا عرفنا أن الشاعر قد دشن جزءاً من تجربته الشعرية في كتابة القصة القصيرة، هكذا يكتب سركون:

«عندما كنتُ أرود، عندما هربت مني شبه عارية في كرمة أبيها

صانع الخمور الكئيب ثم لم أرها

من أجلها أنت هكذا

كالوحش في أسر بيدائه

من أجلها

تلك المرأة المولودة بقلب واثق من النصر».

كم سنفتقد برحيل سركون هذا التوهج الشعري الذي أحدثه أحد أهم شعراء الحداثة العربية.