في مطلع شهر مارس تحتفل لندن الثقافية (الهندية والإنكليزية) بذكرى مرور 150 سنة على ميلاد الشاعر الهندي الكبير طاغور (1861-1941). النشاط الثقافي الإنكليزي يقتصر في احتفاله على جانب من عبقرية طاغور بالغة الخصوصية، والتي تخص الفن السينمائي: في قاعات سينما معاهد الفيلم في مجمع «الساوث بانك» موسم قصير للأفلام التي أسهم فيها طاغور، سينمائياً، روائياً أو موسيقياً. إلى جانب فيلم وثائقي عن حياته وإنجازاته. وإنجازات هذه الموهبة الشرقية الرائعة عديدة: الشعر وشعر الأغنية، والمقالات، والدراما والرقص والتأليف الموسيقي، والرسم. وقد أصبح رساماً بعد أن بلغ الستين من العمر.

Ad

كنت أطمع في حضور هذه العروض. وجرياً للعادة اتصلت بشباك التذاكر للحجز فاعتذروا، لأن جميع التذاكر بيعت للعروض الأولى. وتركوا لي فرصة شراء عرض متأخر، بعد أكثر من أسبوعين. لم أستجب، ولجأت إلى الإنترنت أستجوب «اليوتيوب» عن الأفلام واحداً إثر آخر. فكان كرم الـ»يوتيوب» كالعادة وافراً. الأفلام متوافرة كلها، باستثناء الفيلم الوثائقي، الذي عزّيت النفس بأني سأعثر عليه بالتأكيد، داخل هذه العلبة المعدنية التي منَّ علينا بها القرن الواحد والعشرون.

لدي شاشة كمبيوتر معقولة السعة، وكرسي للكمبيوتر جديد، ومريح تماماً. ثم إن من فضائل العرض الحميمي هذا إنك تملك أن توقفه، لأي سبب من الأسباب، متى تشاء. أو أن تؤجل المشاهدة إلى ما بعد الغداء جملةً. وبالمناسبة، فإن الاقتصار في المشاهدة (الجدية) على الشاشة الحميمية الصغيرة ينطوي على متع خاصة، لعل أهمها إحساسك بأنك داخل شاغل ثقافي. وإنك داخل شاغل خيالي توحي المخيلةُ لك فيه أنك أمام شاشة سينما فضية صغيرة، وداخل قاعة للعرض صغيرة، وإنك مثلهما صغير، ومناسب.

كان الشاعر طاغور قد أسهم بقسط من عطاياه الإبداعية في السينما الهندية. حتى انه أخرج فيلماً بنفسه عام 1934، نقلاً مباشراً عن خشبة المسرح. هذا الفيلم حدث أن فُقد، ثم عُثر عليه مؤخراً. أما بقية الأفلام الخمسة فتعتمد رواياتٍ له. ولم يلتقِ مع نتاج طاغور الأدبي هذا إلا مخرجون على درجة عالية من الجدية. في طليعتهم تقف قامة «ساتياجيت راي»، الذي قدم قصة «البنات الثلاث» (1961) في أفلام ثلاثة يعالج الأول منها، بغنائية «راي» المعهودة، حكاية «موظف البريد» الذي يفد إلى قرية مقطوعة، حيث تتشكل علاقة حميمية بخادمته الصبية. وحكاية المرأة المأخوذة بمجوهراتها في الفيلم الثاني. والثالث عن المرأة التي تكتشف عاطفة الحب لزوجها بعد أن تزوجته قسراً. هذا إلى جانب الفيلم المتأخر نسبياً «البيت والعالم» (1981)، ذي الشاغل التاريخي، السياسي عند تقسيم بلد «البنغال» في مرحلة الاستعمار البريطاني.

الأفلام الثلاثة الباقية لمخرجين لا يقلون جدية عن «راي». الأول «تابان سينها» في فيلمه «الحجارات الجائعة» (1960). حكاية جامع ضرائب ينتقل إلى بيت مسكون بالأشباح حيث يقع في حب شبح امرأة آسرة الجمال. الثاني «هيمين غوبتا» في فيلم «كابوليوالا»(1961)، عن أفغاني متعلق بابنته، يهاجر إلى الهند، وهناك يجد السلوان في علاقته الأبوية بفتاة أرادها بديلة، ولكن عاطفته البريئة أثارت همساً متشككاً من حوله. والثالث «كومار شاهاني» في فيلم «أقسام أربعة»(1997). وفيه توجه نقدي لاذع للمتطرفين الأيديولوجيين داخل حركة التحرير الوطنية الهندية. ويصح على غير الهندية بالتأكيد.

ولد طاغور في عام 1861، وكان الأصغر سناً في عائلة مكونة من 14 طفلا. بدأ كتابة الشعر في سن السابعة، واتسعت شهرته عالمياً عبر ديوانه الشهير «غيتانجالي»: الذي بدت حساسيته جديدة جداً في أفق الشعر العالمي، الذي بدا مُعتماً على أثر الحرب العالمية الأولى، حتى ان طاغور حاز على اثر ديوانه جائزة نوبل للآداب في 1913. ترجمت هذه القصائد إلى لغات عالمية عدة. وباعتباره تربويا كبيرا أقام مدرسة في الهواء الطلق، وكلية للفنون ذات طبيعة تنويرية متحررة. وكرجل عالمي عرف بتبادله الرسائل مع ييتس، عزرا باوند، وروبرت برغز. وفي وقت لاحق مع ألبرت أينشتاين، رومان رولان وجورج برنارد شو. وقد ترجمت أعماله إلى الفرنسية على يد أندريه جيد، وإلى الروسية على يد الشاعرة آنا أخماتوفا.