يبدو التساؤل مشروعاً عن حضور المفكر والمثقف والثقافي في الحدث التونسي الأخير، أو ثورة الياسمين، كما اختار لها أهلها، خاصة أن هذا الحدث يشكّل منعطفاً كبيراً وتاريخياً لبلد عربي، كان حتى آن قريب جداً، يُشار إليه بوصفه مثالاً للاستقرار والانضباط والانفتاح العصري، ولو أن هشيم الوجع والقمع الاجتماعي الشعبي، كان ينتظر الشرارة، التي فجرها الشاب «البوعزيزي» بحرق نفسه.

Ad

إن طبيعة الفكري والثقافي تختلف تماماً عن السياسي خاصة إذا اقترن هذا السياسي بالعسكري. وعلى مرِّ التاريخ ظل الثقافي يتوارى عن المشهد لحظة هدير وانفجار السياسي العسكري، تاركاً تمثيله على الساحة لمجاميع شعبية اعتنقت فكره، واندفعت تضحي بأرواحها إيماناً بمبادئه وآرائه. وبما يؤكد أن الفكري والثقافي كانا على الدوام في القلب من تحريك المشهد الاجتماعي السياسي، خاصة لدى جموع المحرومين والمقموعين، الذين يرون في مبادئ ورؤى الفكر والثقافة، وتمثلها في الأدبي والفني، خلاصاً مبشراً لهم، فيسيرون على درب طويل مليء بالعثرات، لكن نوراً آسراً يلوح في آخر نفقه.

إن اندفاع الجماهير العفوي، أو المنظم، في لحظة غضبها، وغليان مرجل نارها، يجعل صوت العقل يبدو ترفاً لا مجال له، فطبيعة العقلي الثقافي، تعتمد بيئةً وحواراً وحججاً، لا تتوافر لغضبة الجماهير، لحظة استرخاص الروح، وعلو نبرة التحدي والمواجهة، وفتح الصدور للرصاص الحي. وهذا ما يبعث على اللبس في تبيان مهمة المفكر والمثقف وعلاقتهما بالهم الاجتماعي الشعبي، فقد يبدو الفكر والثقافة، للوهلة الأولى، بعيدين عن قواعدهما الشعبية، لكن المتأمل يدرك أن الجماهير، حتى لو تحركت بشكل عفوي، فإنها غالباً ما تكون تحت تأثير وجعها الإنساني المعيشي من جهة، وشعورها العفوي بدكتاتورية وظلم السياسي أو العسكري الذي يحيط بها من جهة ثانية.

إن تآريخ الحدث التونسي الجلل بحرق الشاب محمد البوعزيزي لنفسه يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010 أمام مقر ولاية «سيدي بوزيد»، قد يبدو صحيحاً تماماً، لكنه في الوقت ذاته، يخفي وراءه دلالة لا يمكن تجاوزها بتحقق القاعدة الفيزيائية المعروفة القائلة: «التراكم الكمي يؤدي إلى تغيّر نوعي». لذا فإن اندفاع وهدير الشارع التونسي المتلاطم بجماهيره، على اختلاف مستوى الوعي لديها، يدلل على أن الثقافي والفكري الناقم على الدكتاتوري والتسلطي والقمعي والبوليسي وحجر الحريات، كان يسير جنباً إلى جنب، مع المتضرر في لقمة عيشه، أياً كان مستوى وعيه وثقافته. وانه حين تزاوج الظرف الموضوعي مع الظرف الذاتي، هدر الشعب التونسي على امتداد الأرض التونسية كلها، وردد مع ذاك «الشابي» الغائب الحاضر: إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر.

يكون الفكري والثقافي مستنفرين وضروريين لحظة الحدث الزلزال وما يتلوه، كونهما ينظران إلى المستقبل، وكونهما يرتفعان فوق الجراح الآنية في سبيل كتابة تاريخ جديد لأمة بأكملها. نعم، قد يبدو للناظر المتعجل غياب الثقافي والمثقف عن المشهد التونسي في ثورته وغليانه وانقلابه التاريخي، لكن نظرة واعية، تظهر أن الفكري والثقافي والمثقف كان المرجل الذي عمل لسنين طوال، وقدّم تضحيات كبيرة مؤلمة، في سبيل الوصول بالحالة الشعبية إلى ما وصلت إليه.

على امتداد التاريخ الإنساني، ظل السؤال قائماً حول قوة الفكري والثقافي في مواجهة السياسي العسكري، وبالرغم من ارتفاع صوت وجبروت السياسي والعسكري، فإن الانتصار والبقاء كان دائماً من نصيب الفكري والثقافي والإبداعي. وهل أدلّ من حضور «أبوالقاسم الشابي» المتوفى في 9 أكتوبر 1934، بين المتظاهرين، ليملأ الأحياء التونسية بشعرٍ يأبى على الموت وينتصر للحق.