أوروبا والربيع العربي

نشر في 27-03-2011
آخر تحديث 27-03-2011 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت في عام 1989، انهار السور الذي فصل بين شطري أوروبا فجأة، في غضون بضعة أشهر، الأمر الذي أفسح المجال أمام قدر عظيم من الاضطرابات السياسية ونفاد الصبر، ففي مستهل الأمر أصاب بلدان أوروبا القديمة نوع من الشلل الذي جاء مصحوباً بالخوف من المجهول والقلق الشديد من احتمالات الهجرة، ولكن هذه البلدان سارعت في النهاية إلى انتهاز الفرصة التي قدمها التاريخ لها على طبق من فضة.

فقد نفذت أوروبا العديد من برامج المساعدة المالية والفنية، وفتحت محادثات تجارية، ووعدت بتوسع الاتحاد الأوروبي باتجاه الشرق، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى حرية تحرك العمال عبر الستار الحديدي سابقا، وبعد عقدين من الزمان أثبتت هذه الجهود نجاحاً هائلا، ولكن هل نشهد قصة مماثلة (ولو أنها غير متطابقة بطبيعة الحال) تتكشف أمام أنظارنا الآن عند الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط؟ هذا هو السؤال الاقتصادي الرئيس الذي يفرضه الربيع العربي اليوم.

إن سكان الاتحاد الأوروبي الذين يبلغ عددهم 500 مليون نسمة يجاورون 170 مليون جار يعيشون إلى الجنوب من البحر الأبيض المتوسط، من أغادير «المغرب» في غرب منطقة شمال إفريقيا إلى مدينة بورسعيد «مصر» في الشرق، ويعيش هؤلاء الملايين من البشر عند أعتاب أوروبا، ويتطلعون باشتياق إلى الازدهار والديمقراطية. وفي تونس ومصر، أظهر الناس قدراً هائلاً من العزيمة والإصرار، حيث نجح الشعبان في الإطاحة بنظامين من الأنظمة الحاكمة التي كان العديد من المراقبين في الغرب ينظرون إليها باعتبارهما ضماناً للاستقرار، والآن لا يطلب الناس هناك أكثر من تمكينهم من استثمار طاقاتهم في الوصول ببلادهم إلى التعافي والانتعاش، ولكن ما لم يكن لديهم من الأسباب ما يجعلهم على اقتناع بأن التحسن قادم، فإن الطاقة الديناميكية التي تحركهم اليوم سوف تتحول إلى يأس، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر.

والأولوية الأولى هنا تتلخص في فرص العمل، ذلك أن العديد من الشباب الذين يقودون الثورة في تونس ومصر بلا عمل، ولا ندري ما إذا كانت البيانات الرسمية التي تشير إلى معدل بطالة يبلغ نحو 30% بين الشباب صحيحة، ولكن من الواضح أن الاقتصاد في هذين البلدين كان عاجزاً عن استيعاب الموجة الديمغرافية العارمة في العقود الماضية. والواقع أن معدلات النمو الأخيرة- تتراوح بين 5% و6% سنوياً في مصر وليبيا وتونس والمغرب- تبدو قوية، ولكنها تصبح أقل إثارة للإعجاب إذا ما علمنا أن معدل النمو السنوي بين السكان في سن العمل كانت في المتوسط 2.5% طيلة الأعوام العشرة الأخيرة، وهذا يعني أن الأمر يتطلب نمواً أقوى كثيراً من أجل خلق الكم الكافي من فرص العمل لملاحقة النمو السكاني.

إن العراقيل الرئيسة التي تكبح التنمية تكمن في المؤسسات الاقتصادية القائمة في هذه البلدان، ووفقاً لتقارير البنك الدولي، فإن تصريح البناء في مصر يتكلف ثلاثة أضعاف متوسط الدخل السنوي هناك، ويحتاج الأمر إلى القيام بنحو 11 خطوة مختلفة لتسجيل أي معاملة عقارية في الجزائر، ويحتل المغرب المرتبة رقم 154 من أصل 183 دولة فيما يتصل بحماية حاملي الأسهم ضد إساءة استخدام السلطة من جانب الإدارة.

وكل هذا ليس أكثر من فيض من غيض من الأمثلة، وكلها تشير إلى اقتصاد التنمية فيه معوقة بفعل البيروقراطية وأباطرة الاحتكار- وهذا يأتي غالباً كنتيجة للمحسوبية السياسية ومحاباة المقربين- وأسواق الائتمان المتصلبة.

إن محاولة تصدير الحلول التي استعين بها في أوروبا الشرقية أمر غير قابل للتطبيق، ولا ينبغي أن ينصرف التفكير إلى تلك الحلول... ونظراً لدورها المهيمن في المنطقة، فإن أوروبا قادرة على إحداث تأثير أكثر مباشرة في السياسات التي تؤثر في التجارة والقدرة على الانتقال. واليوم أصبحت الهجرة مقيدة إلى حد كبير، ولابد من السماح بتنقل المهارات المهنية من دون تأخير، وفضلاً عن ذلك فإن حركة تداول السلع محدودة أيضا، فهي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، لا تتجاوز تجارة تونس مع الاتحاد الأوروبي نصف تجارة جمهورية التشيك مع الاتحاد، ولا تتجاوز تجارة المغرب مع الاتحاد الأوروبي ربع تجارة بولندا معه.

إن الانفتاح من جانب أوروبا أمر مطلوب، ليس فقط فيما يتصل بالسلع، بل أيضاً فيما يتصل بالخدمات، لذا، يتعين على أوروبا أن تشجع أكثر من أي وقت مضى نموذج نقل التصنيع إلى الخارج في أكثر الشرائح التي تتطلب عمالة مكثفة في سلسلة القيمة، كما فعلت ألمانيا بنجاح عظيم (خصوصا في أوروبا الشرقية)، وهو ما يفسر جزئياً ارتدادها إلى الهيمنة على التصدير في الأسواق العالمية، وفي حين قد يترتب على هذا النموذج خسائر أولية للوظائف في أوروبا، فإنه سيعم.

وتحضرني هنا الحكمة الشهيرة التي أطلقها رئيس الوزراء الفرنسي الراحل بيير منديس فرانس، الذي سحب قوات بلاده من الحرب في فيتنام وأنهى الاستعمار في تونس، حين قال: «إن الحكم اختيار». والواقع أن الاختيار واضح الآن أمام أوروبا: تعبئة الجهود لإعانة جيرانها على فتح اقتصادهم ومجتمعاتهم، أو الشروع في حشد قوات خفر السواحل وتسيير قوافل من قوارب الدورية.

* جان بيساني فيري | Jean Pisani-Ferry ، أستاذ بكلية هيرتي للحوكمة (برلين) ومعهد العلوم السياسية (باريس) وهو يشغل حالياً منصب المفوض العام لإدارة الاستراتيجية الفرنسية، وهي مؤسسة استشارية سياسية عامة.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top