المشهد الطائفي حقائق وأوهام


نشر في 27-05-2011
آخر تحديث 27-05-2011 | 00:00
 د. محمد لطفـي ضاعت الحقيقة بين التهويل والتهوين»، ولن تجد حقيقة أكثر تعرضا لذلك من المشهد الطائفي في مصر، وبداية فأنا من مواليد حي شبرا في القاهرة منذ أكثر من 50 عاما ومازلت أقيم فيه، ولمن لا يعرف، فحي شبرا من أكثر الأحياء وجودا للمسيحيين، لذلك فمن الطبيعي أن يكون لي جار وأكثر من المسيحيين، وزميلي في الدراسة مسيحي وصديقي في الشارع الذي لعب معي الكرة صغارا وصادقته كبارا مسيحي، وكم تسابقنا في صنع الخواتم والساعات من «السعف» احتفالا بأحد السعف الذي يسبق عيد القيامة بأسبوع، وكم تراهنا على الصيام في رمضان، وما أكثر ما ذهبنا إلى كنيسة «سانت تريزا» و.... و.

ما أقوله ليس خاصا بي كشخص أو بشبرا كحي، ولكنه أمر عام في أنحاء القاهرة وأنحاء مصر كلها، يؤكد أن المواطن المصري البسيط مسيحيا كان أم مسلما لا يعاني الاحتقان أو الفتنة الطائفية، ولكنهم عدة مئات من أصحاب الصوت العالي يتصايحون ويتصارعون كالديكة، ويتناطحون كالثيران من أجل مكاسب دنيوية لا دينية. (حقيقة أولى).

وإذا كان الأمر كذلك فما حقيقة ما نراه في المشهد الطائفي؟ بدأت عبارة الفتنة الطائفية تتردد على مسامعنا في النصف الثاني من السبعينيات على لسان الرئيس الأسبق أنور السادات في خطابة حول أحداث ما عرف وقتها «أحداث الزاوية الحمراء»، وقال إن سيدة مسيحية كانت تنشر الغسيل فتساقطت قطرات من الماء فوق غسيل جارة لها مسلمة، فاختلفت السيدتان وبدأت الأحداث.

وبالتأكيد فمن الممكن أن تحدث خلافات أو شجارات بين مواطنين في أي زمان ومكان ولأي سبب كان، وقد يكون الطرفان مسلما ومسيحيا، ولكن السؤال: هل الخلاف على أساس ديني أم لا؟ هذا هو السؤال، فأن يكون الخلاف على أمر بعيد عن الدين فلا يجب أن يسجل تاريخيا أو يتحدث عنه البعض على أنه فتنة طائفية. (حقيقة ثانية).

لنكمل... مع بداية الثمانينيات اختفى الحديث تماما عن الفتنة الطائفية، وكان الأهم محاربة الإرهاب والجماعات الإسلامية المسلحة (بعد اغتيال السادات)، واستمر ذلك إلى النصف الثاني من التسعينيات، ثم أخذ الحديث يعود مرة أخرى عن الفتنة الطائفية وأحداث هنا ومناوشات هناك، وإصابات واحتقان بين الطرفين، وكان أكبر حادثين قبل ثورة يناير حادث «الكشح» وتفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، وهما ما تأكد ضلوع النظام السابق فيهما عمدا وقصدا (الحزب الوطني في الكشح ووزارة الداخلية في القديسين)، وللجميع أن يتخيل لو أن النظام السابق كان أمينا ومحترما، ولم يتعمد حرق المجتمع فهل كانت الأمور ستصل إلى ما وصلت إليه؟ فضلوع النظام الحاكم واستفادته من إثارة الفتنة الطائفية أمر مؤكد. (حقيقة ثالثة).

ونبدأ التحليل ونقول ببساطة إن هناك فرقا كبيرا بين الاحتقان الطائفي (الفئوي) والتعصب لأتباع مذهب أو جماعة ما وبين الفتنة الطائفية، فالاحتقان والتعصب بين أتباع طائفة والمنتمين إليها ضد أتباع طائفة أخرى أمر فطري ومتوقع ويمكن تفهمه– بقدر ما- وموجود في كل زمان ومكان، فهناك احتقان بين المذاهب المسيحية ذاتها في أوروبا، وهناك احتقان بين السنّة والشيعة هنا في الكويت، وهناك احتقان بين مواطني دول مجلس التعاون بين الكويتي والسعودي وبين السعودي والقطري، فكل يرى نفسه الأفضل والأجدر بالقيادة. كل هذه أمثلة لاحتقانات مختلفة بين طوائف وفئات متنوعة، ولكن هناك من يسعى إلى زيادة حال الاحتقان وتحويله إلى فتنة، وباختصار إذا كان الاحتقان الطائفي فطريا فالفتنة الطائفية أمر مصطنع ومدبر يقوم به شخص أو نظام بهدف محدد في وقت محدد. (حقيقة رابعة).

وهذا ما أثبتته الأحداث طوال الـ40 عاما الأخيرة في مصر– قبل ثورة يناير- فكل ما كان من أحداث طائفية تم بسبب النظام وتجاهله وتركه للأحداث لتتفاقم وينشغل بها الشعب عما يدبر له، وما يحدث من فساد سياسي وتشريعات باطلة وسرقة ونهب لأمواله، بل لقد حاول النظام السابق ترسيخ وزيادة الاحتقان الطائفي من خلال سلوكيات وتصرفات معيبة، منها الإيحاء بضرورة تعيين مسيحيين في مجلس الشعب دعما لهم لأنهم غير قادرين على النجاح الطبيعي في صناديق الانتخاب! وضرورة تعيين محافظ قبطي في الصعيد.

ويقوم الإعلام الفاسد بالتركيز على ذلك والتأكيد على مسيحية المحافظ، وكأنه تم اختياره فقط لأنه قبطي لا لكفاءته! كل هذه التصرفات كانت تدفع المسيحيين إلى الاستشهاد بها للتدليل على حقوقهم المنقوصة، وتدفع المسلمين للصراخ عاليا لرفض ذلك. (حقيقية خامسة).

وللأسف استمرت بعض هذه التصرفات بعد ثورة يناير، وهذا ما سنستكمله في المقال القادم إن شاء الله.

back to top