كورن فليكس
تمر كل لحظة من حياتنا محملةً آلاف الخبرات التي تفوتنا تماماً، تُقبِل الثواني متخمةً حد الافتتان بلقطات إنسانية متسارعة تنزلق فوق حواسنا من دون أثر، فتتعاظم خسارتنا ويمضي العمر من دون أن نعيش كل تفاصيله الحقيقية، من دون أن نتمرغ في كل تجاربه، من دون أن نستنشق لحظاته كافة.
أعي أنا هذه الحقيقة، لكن يبقى تلقّف كل تفصيل يدور حولي عملية شاقة حد الإعجاز، لكن هذه الاستحالة لا تمنعني من تدريب نفسي بين وقت وآخر على أن تكون أكثر وعياً بما حولها وأعظم فهماً لهامشيّتها وضآلتها في هذا الكون العظيم.من بين ليالٍ عديدة ومتسارعة، أتصيّد بين الحين والحين ليلةً، أشحذ فيها حواسي جميعها، وأنتظر لحظة يداهمني النعاس، فآخذ سيارتي إلى حيث أستطيع أن أستثمر حواسي المشحونة وأهدابي المثقلة وهدأة الليل المسالم، وأجد طريقي... إلى الجمعية التعاونية.نعم، في هذا المكان المثقل بالاستهلاك، المضغوط بالمعلبات والصناديق والأكياس الملونة، الموسوم بجعلنا نحتاج ونشتهي ما لا نريد، تنفتح أمامي آفاق التجارب الإنسانية بتعددها وتفردها وجمالها. في هذا المكان، وأنا وحدي أدفع عربة موعودة بالامتلاء بشهوات ورغبات تتحول كلها إلى أكياس وعلب يفوت وقت صلاحيتها من دون أن تصلِح قلوب مشتريها، أجدني أكثر وعياً بضآلتي وأعظم تقديراً وتقديساً للتجارب الإنسانية من حولي.آخذ وقتي... أتمهّل... أستمتع بالدقائق التي عادة ما تمر بجنون سريع يحرمني التمتع بها، فأجدني أستعذب شعوري بمرور كل ثانية، أشحذ حواسي لتستقبل كل ما يمكن أن يملأها. أتمهل أمام تلة التفاح الصغيرة، أنظر إلى ترتيبها وأتمعن في احمرار جلدها اللامع اللذيذ. أقف طويلاً أمام علب «الكورن فليكس» بألوانها ورسومها المتنوعة، صناعة أميركية، صناعة عربية، صناعة أميركة في مصانع عربية، فأغوص بين حبيباتها متفكرة في ما يحدث بين «الكبار» لنقف نحن «الصغار» في النهاية أمام هذه العلب الملونة لنختار منها ما يشبع رغبةً دفينةً واحتياجاً هما أبعد ما يكون عن الجوع. أراقب صغيرة ووالدتها من بعيد، تلح الصغيرة وترفض الكبيرة، وفي ثوانٍ، تستسلم الكبيرة وتنتصر الصغيرة بابتسامة براقة رائعة.أتمعن في «قميص نوم» الصغيرة البهيج يحمل صورة أميرة كرتونية جميلة وفي خفها «البيتي» يضم قدميها الصغيرتين بإهمال، أبتسم لها بشيء من غيرة افتقاد أيام أبسط، بحسد لطفولة تمنحنا حرية الخروج بلباس النوم وتعطينا حق انتعال خف صغير على أقدامنا، كبير في إحراج الكبار المرافقين لنا. أتبادل التحايا مع والدتها، تخبرني بإعجابها ببعض آرائي ومخالفتها للآخر «بسبب الدين»، أشكرها بصدق وأنا أتفكر في هذا العداء الذي خلقه الفكر الديني الحديث بين الدين والحرية، وتحضرني الباحثة فاطمة المرنيسي في تحليلها لهذا العداء بعقدها مقارنة بين العصر «الجاهلي» وعصر ما بعد الإسلام وموقف كليهما من الحرية.وقبل أن أذهب بعيداً في طريق قد يخرجني من هدأة قلبي، ألاحظهما من على بعد، يبدوان لي كأنهما زوجان حديثان يتسوقان للمرة الأولى لبيتهما الجديد، وقد اعترتهما جدية وهما يقرآن مكونات علبة المنظف محل اهتمامهما. انتابتني رغبة ملحة بالضحك المرتفع، فهذا الاهتمام الكبير بنوعية المنظف الذي سيستخدمانه على سجادتهما الجديدة سيستبدله الزمن باهتمام أكبر بسعر المنتج بعد أن تصبح سجادتهما مرتعاً للبكتيريا والجراثيم بضيافة الأولاد.من ممر إلى آخر، جمعت أشياءً أحتاج إليها وأخرى أعجبني شكلها وثالثة لا أحتاج إليها ولا يعجبني شكلها، ولكن لسبب ما لابد أن أمتلكها، وخرجت متبوعة بفتى فلبيني يحمل أغراضي التسوقية، والذي بادرني ما أن وصلت إلى السيارة «هذه سيارة ثمينة جداً يا سيدتي»، فضحكت شاكرةً وأخبرته أن هذه سيارة قيمتها لا تتعدى الستة آلاف دينار، نظر إليَّ مشوشاً بينما ألقيت أنا نظري على الطريق ارتباكاً وإحراجاً لحماقتي، بادرني مرة أخرى «تشبه الموستانج، هي سيارتي المفضلة»، فتمنيت له أمنية مؤكدة أن يمتلك سيارة أحلامه، لكنه ابتسم باستسلام «لا يبدو أن هذا ممكناً سيدتي»، «بل كل شيء ممكن» أخبرته أنا بصوت أكذب ما فيه يقينه.عدت إلى البيت محملةً أفكاراً كثيرة، لكن بعثرتها وتشويشها وعشوائيتها بدت لي الفكرة الأجمل والأعم، وها هي مقدمة لكم من دون تنقيح، كما هي الحياة تمضي وتتبعثر بجمال عشوائي، وليست أعمارنا سوى تلك اللحظات التي نرى فيها هذا الجمال، فنعيشها بعمق وإخلاص.إذا ضاق اليوم وصغرت ثوانيه، فعليكم بالجمعية التعاوينة بعد الحادية عشرة مساءً، في ممراتها حياة ودروس و... أمل.