تبدو ساحة القضية الفلسطينية اليوم أقرب ما تكون إلى خشبة مسرح كبيرة متهالكة، أضناها الزمن وتعاقب عليها المؤدون، لكنها مع ذلك مجبرة على بدء عرض جديد، رغم رداءة الرواية وعدم جديتها، وفقدان الممثلين اليقين في الشخصيات التي يلعبون أدوارها، وانصراف قطاع كبير من الجمهور عنها، وتراجع اهتمام الإعلام بها، وفقر الديكور، وتهالك معدات الإضاءة.

Ad

إذا كنت من هؤلاء الذين واظبوا على متابعة وسائل الإعلام العربية على مدى العقود الستة الفائتة؛ كلها أو بعضها، فلا شك في أنك تعرضت لملايين النصوص المسموعة والمرئية والمكتوبة، التي تتعلق بتفاعلات "قضية العرب المركزية الأولى". ولا شك أيضاً في أنك أصبحت تحفظ عن ظهر قلب عدداً كبيراً من العبارات المكررة ذاتها مثل "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، ثم "اللاءات الثلاث"، فـ"الأرض مقابل السلام"، و"حقوق الشعب الفلسطيني التي لا تقبل التنازل"، و"السلام كخيار استراتيجي"، و"عملية التسوية"، و"حل الدولتين"، وصولاً إلى "مفاوضات السلام... مباشرة وغير مباشرة".

فهل لاحظت أن الأخبار والمقالات والتعليقات والقصص التي تتناول القضية الفلسطينية في وسائل الإعلام والمنتديات والمحافل العربية باتت تتقلص يوماً بعد يوم، وأفسحت المجال لقصص أخرى تتعلق بالقضايا المحلية في كل دولة عربية على حدة، أو بموضوعات إقليمية أخرى أكثر جذباً للاهتمام؟ أو ربما أمكنك رصد تضاؤل المساحة المخصصة للسياسة عموماً، في المجال الإعلامي والسياسي العربي، وفي القلب منها الموضوع الفلسطيني، لمصلحة موضوعات تتصل بالسياسات والاقتصاد والخدمات والشؤون الترفيهية والرياضية والحياتية الأخرى.

على مدى العقود السابقة ركزت أجيال متتابعة من الإعلاميين والمثقفين العرب جل اهتمامها على الشأن العربي والدولي، إذ احتلت القضية الفلسطينية صدارة الأحداث، قبل أن يتراجع الاهتمام بها لمصلحة موضوعات أخرى، وتفقد الزخم يوماً تلو يوم، وتتحول إلى أخبار مكررة لا تتحور صيغها ولا تتبدل إلا في ما ندر، وينحسر الاهتمام عنها، ببطء ولكن باطراد، بين المحللين والخبراء والكتاب.

كانت تفصيلات القضية الفلسطينية الصغيرة وأدق تطوراتها وأقلها أهمية ومعظم الشخصيات الفاعلة والمؤثرة والمحيطة والمهتمة بها موضوعاً أساسياً للبحث والتنقيب في المجال العربي العام. وكانت كل خطوة أو تحول في مسارها، مهما كانت بسيطة أو باهتة، تحظى بأفضل اهتمام ممكن، وتخضع لبحث ودرس وتقص واف، وتنصب لها المناقشات الطويلة، وتحاط بالجدل المثير، وينقسم حولها المهتمون بإيمان وتعصب وشغف، ويُبلور الرأي العام بصددها، ويحرص أصحاب المواقف على حشد المؤيدين والمناصرين وتعبئتهم مع هذا الرأي أو ذاك.

لكن القضية الفلسطينية اليوم تقبل على منعطف مفصلي خطير، يأخذها إلى هوة قد تخمد جذوتها لسنوات طويلة، وتطمر جوهرها الأساسي، وتضع قيداً ثقيلاً على أي محاولة جادة، من جيل أفضل قد يأتي يوماً، لتسويتها بشكل أقرب إلى العدالة والمنطق السياسي والأخلاقي والإنساني.

مازال الشعب والحكم في فلسطين منقسماً انقساماً هو الأخطر على الإطلاق منذ تكونت حركة المقاومة الفلسطينية، ومازال الجسم العربي الأساسي متبايناً إزاء الطريقة التي يجب أن يدار بها الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وتغرق أنظمة بعض الدول الرئيسة في لجة عميقة من الغموض وافتقاد الرؤية أو الارتهان للضغوط العارمة، وتحكم الدولة العبرية حكومة ائتلافية هشة، لا يحفظ قوامها عند خط التماسك سوى أكبر قدر ممكن من التشدد إزاء العرب، ويجلس في البيت الأبيض رجل حسن النية لكن الضعف ينال منه يوماً بعد يوم. وتتراجع صورة العرب في أوروبا، بينما تتزايد الروابط الوثيقة بينها وبين إسرائيل، ومع ذلك تُقاد السلطة الفلسطينية إلى الموافقة على بدء "مفاوضات مباشرة" مع الإسرائيليين، في أعقاب جولة من المفاوضات غير المباشرة، استمرت شهوراً أربعة، ومُنيت بالفشل الذريع.

يمكن تفهم اعتبارات الإدارة الأميركية في ممارسة الضغوط الكبيرة على الأطراف العربية المختلفة للدخول في مرحلة المفاوضات المباشرة؛ فالبديل ليس سوى اعتراف مرير بالفشل في الوفاء بالعهود التي قطعها أوباما على نفسه حين وصل إلى البيت الأبيض، وترك المنطقة لـ"فراغ استراتيجي" لا ينتج سوى الفوضى أو إشعال الحرائق، بما يزيد من ستائر الدخان التي تحول دون تسوية الموضوع الإيراني ذي الأهمية الاستراتيجية العاجلة والفائقة.

وكذلك يمكن تفهم موقف السلطة الفلسطينية، التي تريد أن تسجل أنها مازالت تمسك بأطراف القضية، ولا تريد أن تخسر روابطها الوثيقة بالأطراف العربية "المعتدلة" أو "تسيء" لصورتها كـ"سلطة معتدلة راغبة في الحل السلمي" أمام المجتمع الدولي، فضلاً عن أنها تعرضت لـ"أكبر الضغوط على الإطلاق"- وفق تصريح الرئيس "أبو مازن" نفسه- لاتخاذ القرار بالسير قدماً نحو التفاوض المباشر.

كما أنه من الممكن تفهم مواقف الأطراف العربية "المعتدلة"، سواء تلك التي تريد أن "تمنع العودة إلى الحرب"، وتلجم التوتر ابتغاء الوصول إلى "التسوية العادلة"، أو تلك المنشغلة بترتيبات داخلية ملحة تريد أن تحظى بتوافق إقليمي ودولي، وأن تقع ضمن أجواء طبيعية؛ ولذلك فهي تدفع في طريق يمكنها من تمرير مشروعاتها أو شراء الوقت.

لكن ما لا يمكن تفهمه حقاً هو هذا الصمت الغريب والانصراف الجماعي من الجسم السياسي والإعلامي والثقافي العربي، في شتى بلدان المنطقة، عن مقاربة مسألة الانتقال إلى المفاوضات المباشرة، والعزوف عن تفنيدها وطرح الرؤى حيالها.

أعطت لجنة متابعة مبادرة السلام العربية، ومجلس وزراء الخارجية العرب، ضوءاً أخضر للفلسطينيين بالانتقال إلى مفاوضات مباشرة بعد فشل التفاوض غير المباشر، وبعدما كان قطاع كبير بين الدول العربية يريد أن "يسحب مبادرة السلام العربية" أو "يدعو إلى عدم إبقائها على الطاولة إلى الأبد".

ومارست دول عربية عدة "ضغوطاً كبيرة" على الفلسطينيين لقبول الانتقال إلى تلك المفاوضات، متكئة إلى "ضمانات وتعهدات" يمكن الحصول عليها لـ"حفظ ماء الوجه"، لكن نتنياهو أظهر صرامة واضحة، فرفض أي "شروط مسبقة"، ونفى "الانسحاب من 90 في المئة من أراضي الضفة"، ولم يبد التزاماً واضحاً بالحدود النهائية وحل الدولتين والقضايا الرئيسة الأخرى، بل راح يؤكد عدم التزامه أيضاً بتمديد مدة تجميد الاستيطان.

يبدو أن تواطؤاً عاماً حصل، لتمرير غايات تتعلق بالأقطار والأنظمة على حساب القضية الفلسطينية، لتُؤخذ إلى "مفاوضات مباشرة"، لا يرجى منها سوى "شغل المسرح"، و"شراء الوقت"، و"البرهنة على موالاة الولايات المتحدة".

وأخطر ما في الأمر شيئان؛ أولهما أن الانتقال إلى "مفاوضات مباشرة" في مثل تلك الظروف سيكون إمعاناً في انتهاك جوهر القضية الفلسطينية والتلاعب بها، وثانيهما أن الجمهور، ممثلاً في الشعب العربي ونخبته ووسائل إعلامه، لا يتحرك ولا يتململ ولا يتفاعل ولا يبدي اعتراضاً واضحاً على هذا "العرض المسرحي" المغرض والمزري في آن.

* كاتب مصري