كنت تحدثت في هذا الموضوع منذ فترة طويلة، إلا أنني استحضرت فكرته مرة أخرى، وبحثت عنه وأعدت صياغته اليوم، بعدما سمعت، أو قرأت بالأحرى، الزميلة إيمان البداح وهي تقول: كم هو مدهش ما تفعله حالة الطقس لمزاجك؟!
كلام الزميلة البداح صحيح جداً، فمزاج الإنسان قابل للصعود والهبوط، وفقاً للمتغيرات من حوله، ومنها الطقس ولا شك، فالطقس الجيد يرفع المعنويات ويستجلب التفاؤل، والعكس صحيح. لكن الحالة المزاجية للإنسان، ليست مرتبطة بالطقس فحسب، بل بأشياء كثيرة، كثير منها صغير وبسيط وغير صعب المنال. ألا تلاحظون معي أنه، مثلا، قد يشم الواحد منا عطراً جميلاً أو رائحة زكية ما في الصباح، وقد يرى شيئا لطيفاً؛ طفلاً يبتسم، منظراً بهيجاً، أو أن يسمع تغريد عصفور، أو ضحك أولاد في الطريق، أو أي شيء «صغير» آخر، فيشعر أن مزاجه قد تعدّل، وأن نفسيته صارت تحلق، وأن الموقف أضفى على نفسه قدراً من سعادة شفافة يحس بها تعانaق روحه كنسمة هواء منعشة مرت عليه خطفاً!حاولوا أن تسترجعوا مثل هذه اللحظات، وحاولوا أن تتذكروا كيف كان يومكم من بعدها، أكاد أجزم أنه كان بهيجاً، أو لم يكن سيئاً على الأقل، وعلى النقيض تماماً، ففي تلك الأيام التي نبدؤها، أو تبدؤنا، بشيء من الحزن أو الإزعاج، نراها تستمر كذلك لبقية اليوم. من يبدأ بخناقة مع زوجته في الصباح، سيذهب إلى عمله ليختلق خناقات أخرى مع الموظفين لأتفه الأسباب، وسوف «يفش غله» في المراجعين. سيفعل ذلك وكأنه يحافظ على لياقته ليكمل الشوط الثاني من الخناقة في البيت بعد الظهر!وما دمنا قلنا هذا الآن، فلننتقل خطوة إلى الأمام. أجيبوني، أليست الحياة أياماً مجموعة؟! ستقولون نعم طبعاً، إذن فببساطة، من يستطع أن يظفر بالسعادة في كل يوم ولو على حدة فسيظفر بها في سائر حياته.البعض سيقول: أين السعادة حتى نظفر بها؟ وسأقول إن من يرغب بها فعلاً سيجدها، فالسعادة حالة عقلية ومزاجية، وليست ظرفاً خارجياً. سيجدها إن هو فتش عنها حقاً، ولو في أصغر الأشياء، في ابتسامة طفل، في شذا عطر، في بريق عين محبوب، في طقس جميل، في كلمة إطراء أو شكر، في لحظة صفاء مع النفس!أندرو ماثيوز في كتابه «اتبع قلبك»، يذكر شيئاً جميلاً، يقول: عندما نتبع قلوبنا ونعمل في الوظيفة التي نحب، قد نصل إلى أن يعطينا ذلك مالاً كثيراً، ولكن من المحتمل ألّا يحصل هذا، بل لعل المال سيكون أقل من وظائف أخرى كان بإمكاننا أن نعمل فيها، لكننا عندما نعمل في ما نحب فسنحصل على السعادة والاستقرار اللذين لا نحتاج بعدهما إلى المال الكثير!أندرو وكثيرون غيره تحدثوا في النقطة نفسها، وهم يقصدون أن الإنسان عندما يصل إلى مرحلة الانسجام في عمله سيكون سعيداً، وستتقلص معاني المال بالنسبة له لتصبح فقط بقدر احتياجاته، أي أن «لحافه سيكون بالضبط على قياس رجليه»، وسينام هانئاً على عكس من يجري وراء المال «جري الوحوش»، وكلما ملأ جيبه قال هل من مزيد، دون أن يظفر بالسعادة!قد لا يقنعكم هذا الكلام، لذا فلنجرب العكس، لننظر إلى «الجماعة اللي فوق»، أعني الأثرياء، وسننظر طبعا دون حسد، من يستطيع منكم أن يجزم أنهم يمتلكون السعادة لمجرد أن أموالهم (زي الرز)؟! من يستطيع أن يجزم أنهم بلا «مطبات» اجتماعية، ولا «خناقات زوجية على الريق»، ولا «كلاكيع» وعقد نفسية؟! كأني أسمعكم تقولون بأن «الجماعة اللي تحت» عندهم أيضا نصيبهم من هذا، وهذا ما أريد الوصول إليه تماماً، لأنه سيثبت أن السعادة والكآبة ليس من الضروري أن تكونا مرتبطتين بالمال.وهنا سأعود مجدداً إلى نقطة البداية، لأقول، بما أن السعادة يمكن أن نحصل عليها من الأشياء الصغيرة، فلماذا لا نعمل على البحث عنها واصطيادها؟ لماذا لا نحرص على أن نبدأ أيامنا بأشياء مفرحة؟ لماذا لا نجعل لكل يوم عطراً جديداً؟ لماذا لا نستمع إلى صوت العصافير؟ ما المشكلة في أن نشتري زوجاً من الكناري ونضعه عند الباب؟ لماذا لا نحرص على تغيير طريقنا الروتيني إلى العمل إلى مسار آخر جديد حتى إن كان أطول لنستمتع بمشاهد أكثر تجديدا؟!أطيعوني ولنفعل ذلك، ولنتبع قلوبنا، فلنلتقط تلك الأشياء الصغيرة، ولنساهم بدورنا في نشر السعادة. لنبتسم في وجوه عباد الله، أليست الابتسامة في وجه أخيك صدقة؟ «يا بلاش»، تصدقوا بالمجان يا جماعة، دون صرف درهم أو دينار!ما العمر إلا أيام معدودة، بل الإنسان كله أيام، إذا مضى منه يوم مضى منه بعضه، وأكبر مأساة للإنسان أن يولد على كآبة ويعيش في كآبة ويموت بين أحضان الكآبة!
مقالات
ومرة أخرى... تلك الاشياء الصغيرة!
14-10-2010