الفتوى التي أصدرتها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، في السعودية بتحريم عمل المرأة "كاشيرة" فتحت الجدل حول قرار الملك عبدالله بقصر الإفتاء على هيئة كبار العلماء ومَن أُذِن له رسمياً بالفتوى.

Ad

القرار الذي صدر في أغسطس الماضي اعتُبر حينها لجماً للفتاوى غير المنضبطة، ومنعاً للخارج عن المألوف من الفتاوى.

الفتوى الأخيرة جاءت بعد جدل إثر تعيين بضع شركات نساءً سعوديات في وظيفة "كاشيرات"، ومع أنهن كن منقبات وفي قسم مخصص للعائلات، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور فتاوى من غير المنتمين إلى الهيئة بالتحريم، وجاءت الفتوى الأخيرة لتؤكد ما ذهب إليه بعض مَن تصدر للإفتاء.

وفُتِح الجدلُ على مصراعيه في السعودية من جديد، حول قرار تحديد الفتوى بهيئة كبار العلماء، فالمعروف أن العاهل السعودي دفع إلى فتح الباب لأصوات مختلفة لتؤكد أن هناك فارقاً بين الاختلاط الذي لم يرد نص من القرآن أو السنة بتحريمه، والخلوة المحرمة بنص حديث نبوي، وهو ما قال به بعض أعضاء هيئة كبار العلماء، إثر اندلاع سجال بشأن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا (كاوست)، التي تسمح للجنسين بالدراسة في صفوف مختلطة، لكن فتوى اللجنة الدائمة هي أول مواجهة غير مباشرة من قبل المؤسسة الرسمية الدينية لتوجهات الملك عبدالله.

ولقد سمعنا جميعاً عن التوجس من الاختلاط، بحجة تطبيق مفاهيم الإسلام في صيانة المرأة، وحراسة فضيلتها، وعفافها، فكان من الأسف الخلط في هذا "الاختلاط"، وهو ما لا يعرف في قاموس الشريعة الإسلامية إلا في أحكام محدودة - كمباحث الزكاة - المنبتة الصلة عن معنى هذا المصطلح الوافد، ليشمل في الطروحات المتأخرة ببدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم، في سياق تداخل مصطلحها المحدث بمصطلح الخلوة المحرمة التي لا تجيزها فطرة أي مسلم له كرامة وشيمة، فضلاً عن احترامه لأحكام شريعته التي صانت الأعراض، ووضعت السياج المنيع، لأي سبيل قد تخترق هذه المُسلَّمة الإسلامية المتفق عليها... وكانت وزارة العمل قد سمحت لمحلات السوبر ماركت بتشغيل النساء في وظيفة كاشيرات.

ولفت البعض إلى أن اهل التيار الذي يرى التحريم داخل هيئة كبار العلماء كلهم أعضاء في اللجنة الدائمة للإفتاء، ولذلك حُوّل الاستفتاء الوارد إلى المفتي العام للسعودية إلى اللجنة الفرعية، وليس إلى الهيئة التي تضم أعضاء من تيار يرى جواز الاختلاط، مثل وزير العدل محمد العيسى الذي قال بعيد انطلاق جامعة "كاوست" بالنص: "... ووقع فتوى اللجنة الصادرة في آخر أكتوبر الماضي سبعة من أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء يتقدمهم المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، والشيخ صالح الفوزان، والشيخ أحمد سير مباركي، والشيخ عبدالكريم الخضير، والشيخ عبدالله بن خنين، والشيخ عبدالله المطلق". وجاء في الفتوى أنه "لا يجوز للمرأة المسلمة أن تعمل في مكان فيه اختلاط بالرجال، والواجب البعد عن مجامع الرجال والبحث عن عمل مباح لا يعرضها لفتنة ولا للافتتان بها، وما ذكر في السؤال يعرضها للفتنة ويفتن بها الرجال، فهو عمل محرم شرعاً وتوظيف الشركات لها في مثل هذه الأعمال تعاون معها على المحرم فهو محرم أيضاً، ومعلوم أن مَن يتقي الله جل وعلا بترك ما حرم الله عليه وفعل ما أوجب عليه فإن الله عز وجل ييسر أموره كما قال تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب"، وفي الحديث المخرج في مسند أحمد وشعب الإيمان للبيهقي عن رجل من أهل البادية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك لن تدع شيئاً لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه"، قال البيهقي رجاله رجال الصحيح ومعلوم أن جهالة الصحابي لا تضر كما نص على ذلك علماء الحديث، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم".

الفتوى لم تذكر أي دليل على حرمة عمل المرأة بهذه الوظيفة، سوى الاستناد إلى علة الاختلاط، دون تدليل على حرمته، وهو ما أثار استغراب بعض المراقبين.

وكانت هيئة كبار العلماء في السعودية، قد أوقعت الملك عبدالله قبل عامين في حرج، عندما امتنع معظم أعضائها عن الفتوى بجواز توسعة المسعى التي دعت الحاجة إليها مع زيادة الحجاج في موسمي العمرة والحج، فلجأ الملك إلى فتوى من علماء العالم الإسلامي كافة، وكان كثيرون يتوقعون أن قرار الملك بقصر الفتوى على هيئة كبار العلماء سيجعل الهيئة تتجنب الوقوع في خطأ استراتيجي يتمثل في إصدارها فتوى تبدو - وإن بشكل غير مباشر -  معارضة لتوجهات الملك بفتح مجالات العمل للمرأة.

 في المقابل يرى آخرون أن فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء تؤكد استقلاليتها، وجرأة أعضائها، وأنهم لا يخافون في الحق لومة لائم، وأنها حسمت الجدل في ما يتعلق بموضوع عمل النساء كاشيرات، وأوقفت الليبراليين عند حدهم، وأسكتت تطاولهم في شأن ديني تصدى له أهله.

غير أن الفريق الآخر، يعتقد أن هذه الفتوى التي تقف ضد مصالح البسيطات اللاتي اضطرتهن ظروفهن للعمل في هذه المهنة، ستقلل من شعبية فتاوى المؤسسة الرسمية للفتوى في السعودية، مذكّرين بأن المؤسسة نفسها حرمت قبل أكثر من عقد مشاهدة المسلسل الكوميدي الشهير "طاش"، ولكنه بقي الأكثر مشاهدة، لأن الناس لم يقتنعوا بمبررات التحريم، فلم يلتزموا به!

وفي تطور لافت بالأمس، حفلت الصحف السعودية بنقد للفتوى، من خلال بضعة مقالات مرشحة للزيادة في الأيام المقبلة، فقد كتب حسن بن سالم في "الحياة" بطبعتها السعودية معتبراً الفتوى "مثيرة في حكمها ومضمونها، وذلك لاعتبارات عدة من أهمها أنها اتسمت بالقطعية التحريمية لصورة من صور التعامل المعروفة والمشهورة بين الرجل والمرأة منذ العهد النبوي وإلى عهد قريب في بلادنا، وكذلك تناقضها مع بعض الفتاوى السابقة التي أصدرتها من قبل اللجنة الدائمة للإفتاء تجاه الأصل الشرعي في عمل المرأة في البيع والشراء في الأسواق".

أما "ملك الصحافيين" كما سماه الملك عبدالله، وأعني تركي السديري، فقد كتب في "الرياض" من خلاصة تجربته العمرية قائلاً: "منذ عرفت نفسي... في عصر طفولة دخنة... عندما لم تكن تعرف ما تعنيه كلمة أسمنت أو بلاط... أو رخام وحتى الشاي كان يأخذ اسماً طريفاً هو قهوة حلو".

في تلك الأيام كنا نشاهد المرأة السعودية... النجدية... تتزاحم جالسة مع سيدات أخريات يمارسن عمليات البيع للرجال والنساء وهن نجومية ساحة المقيبرة ونسمع من الأعمام وكبار الحي قصصاً تعتبر عادية جداً عن كيف تخرج المرأة من القرية لكي تمارس "حش" أي قطع "العشب" مع سيدات أو رجال فيهم مَن هو زوجها أو والدها أو أخوها وتوكل إليها من جانب آخر مهمة رعاية الغنم خارج القرية... هذا لم يكن يحدث في العصر الجاهلي، ولكنه كان وضعاً طبيعياً في قرانا النجدية... منذ ستين عاماً تقريباً".

وكان النقد الأقسى بقلم محمد آل الشيخ في "الجزيرة" حينما عدّ: "هذه الفتوى بصراحة في منتهى الضعف؛ فهي تفتقر إلى التأصيل الشرعي بوضوح، وتنتصر للعادات والتقاليد بوضوح، وكأن الموقعين عليها أُسقط في أيديهم، ولم يجدوا ما يسند رغبتهم المبيّتة في التحريم، فأفتوا بالمنع دون أن يكون هناك دليل. نريد - يا أصحاب الفضيلة - دليلاً واضحاً، أو على الأقل رأياً لعالم من علماء السلف قال فيه إن على المرأة ألا تبيع ولا تشتري في الأسواق المختلطة، وإن فعلت فقد ارتكبت محرماً؟".