تُرى ماذا سيحصل لو أتينا بشجرة صنوبر وزرعناها في رمال الربع الخالي أو صحراء الدبدبة؟ أو أتينا بنخلة وزرعناها في صقيع سيبيريا أو سفوح الهيمالايا؟ الأمر لا يحتاج إلى كبير فطنة لمعرفة مصير الصنوبرة والنخلة في أرضهما الغريبة الموحشة!
داهمني هذا الخاطر وأنا أقرأ في كتاب "جغرافية الفكر" لمؤلفه ريتشارد نيسبيت، الذي حاول في أطروحته دحض الفرضية القائلة إن آلية التفكير وأسسها واحدة لدى البشر، أو أنهم جميعاً يصدرون عن نمطية واحدة في التفكير. وأثبت بدلاً من ذلك أن الثقافات والشعوب والجماعات البشرية تفكر كل منها بطريقة مختلفة، تبعا لأصولها البيئية / الثقافية / التاريخية الممتدة في الزمان والمكان. وأن الفروقات في التوجهات والسلوكيات والتصورات والمعتقدات، ما هي إلّا ثمرة من ثمار الاختلاف في طرائق التفكير المتوارثة عبر الأجيال والمتأصلة كسمات نفسية وعقلية لدى الشعوب والمجتمعات.وقد جاء من ضمن نتائج البحث الذي طبقه على عينات بشرية من الأوروبيين والشرقيين، أن الأوروبيين يتميزون بقوة الإحساس بالذات الفردية وتميزها ككيان مستقل، والإيمان بأن الفرد يمتلك حرية الاختيار المطلقة في ما يعتقد ويرى وينجز من أعمال، وأنه مسؤول عن حياته واختياراته. وأن الإشباع والسعادة لدى الفرد يكمنان في قدرته على ممارسة إمكاناته وقدراته لتحقيق التميز والكمال في صورة حياة لا تعرف الضغوط والقيود.ويرى المؤلف أن هذه السمات المتأصلة لدى الغربيين ما هي إلّا امتداد للفكر الإغريقي وأدبياته الراسخة في الإعلاء من شأن الفرد واستقلاليته، وحريته الشخصية، وقوته العاقلة المفكرة.أما الإنسان الشرقي فلا يرى نفسه إلّا ضمن جماعة (عائلة أو قبيلة أو فئة)، ولا يتصور نفسه ذاتاً متفردة أو مستقلة. ولذلك فالسعادة لدى الفرد تكمن في إشباع مصالح عامة للمجموعة على نحو متناغم ضمن شبكة اجتماعية. ولم يتبلور لدى الشرقيين الحسّ الإغريقي بالحرية الشخصية، إذ إن الحقوق الفردية ما هي إلّا مشاركة المرء في حقوق المجتمع في مجمله، وليست امتيازاً للمرء كي يفعل ما يحلو له. ولذلك عادة ما ينظر الشرقي إلى بعض المفاهيم مثل المساواة والعدالة وحقوق الإنسان بشيء من الشك والتهكم، خاصة إذا كان فيها مساس بمصلحة المجموع أو تهديد لثوابته وأعرافه.هذه الفوارق المتأصلة لدى الغربيين والشرقيين في طرائق تفكيرهم وسلوكياتهم، ربما تجعلنا نعيد التفكير ونتأمل ملياً حين نناقش مصطلحاً مربكاً ومثيراً للجدل مثل مصطلح "الديمقراطية"، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن "الديمقراطية" اختراع غربي هدفه تعزيز إرادة الفرد وحريته، تم تصديره إلينا معلباً وجاهزاً من دون اعتبار للخلفيات التاريخية والثقافية والفكرية التي نما وترعرع فيها في بيئته الأصلية! نسوق هذه الملاحظة ونحن نرى كيف تُمسخ "الديمقراطية" عندنا، نحن الذين لا نرى للفرد أهمية أو شأناً ما لم ينطق بهوى جماعته أو قبيلته أو فئته، منذ أن أعلن الشاعر الجاهلي: (وهل أنا من غزية إن غَوَتْ / غويتُ وإن ترشدْ غزية أرشدِ) وحتى هذه اللحظة!ومع استنكافنا مسألة الحرية الفردية واستنكارنا سياحة الفرد خارج قطيع جماعته، تبرز إشكالية أخرى وهي صعوبة التخلص من داء العنصرية المتأصل في دمائنا، والنظر إلى كل من يخالفنا في العرق أو المعتقد أو المذهب نظرة تنضح بالدونية والرفض! وكِلا الداءين: الصدور عن رأي الجماعة والفئة، والعنصرية لا يستقيمان ومبادئ الديمقراطية، الأمر الذي يجعل من "الديمقراطية" شوكة في البلعوم لا يمكن بلعها كما لا يمكن تحمّل أذاها أو تبعاتها التي تتعارض مع طبائعنا وثقافتنا الاجتماعية!أليست "الديمقراطية" تلك الشجرة الغريبة التي هلكت بين ظهرانينا عطشاً وغربة؟! وما تلك الصراعات والشجارات الصبيانية، والفذلكات اللغوية حول من يفهم الدستور أفضل من الآخر، إلّا نقطة في بحر مأزقنا الحضاري الآني.إن كانت الشعوب الحية قد قطعت شوطاً في أبحاث علم النفس الثقافي من أجل مزيد من الفهم للظواهر المقلقة والتحديات التي تواجهها، فإننا لانزال في أمسِّ الحاجة إلى مثل هذه المشاريع البحثية لنضع أيدينا على الأمراض والعلل التي نرى مظاهرها ونجهل جذورها ودواعيها. فلعل معرفة السبب تبطل العجب.• يمكن متابعة المقالات السابقة على الرابط:http://www.aljareeda.com/aljarida/AuthorArticles.aspx?id=6724
توابل - ثقافات
الشجرة الغريبة
21-12-2010