تهامة فضاء ثقافي
يندر أن نجد أحداً من الكتاب والمثقفين من جيلي الثمانينيات والتسعينيات في المملكة العربية السعودية إلا وتأثر بشيء من إصدارات مكتبة تهامة للنشر والتوزيع، وأستطيع أن أبالغ فأقول «تغذى» وجدانه ببعض من إصدارات تلك الدار خصوصاً الأدبية منها.
أقول ذلك بعد أن وقع بيدي ديوان يضم الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر فاروق جويدة، صادر عن هذه الدار سنة 1984. كنت اقتنيت الكتاب، ومعه إصدار سمعي لكل القصائد أوائل التسعينيات من القرن المنصرم، فالتهمته قراءة، ومازلت أتذكر صدى قصائده. اكتسب جويدة شعبية منذ صدور ديوانيه الأولين «حبيبتي لا ترحلي» و»يبقى الحب»، ثم توالت بعد ذلك الإصدارات: «وللأشواق عودة»، «في عينيك عنواني»، «دائماً أنت بقلبي». بالطبع صدرت له مسرحيات شعرية، ودواوين أخرى عديدة.تأتي قصائد جويدة بكلمات ذات حس وجداني رقيق، أبعد ما تكون عن تعقيدات الرمزية، أو عبث التجريب في قصيدة النثر. قد لا تروق قصائده لأولئك الذين يهوون التعقيد، أو يميلون إلى الإيغال في الرمز، والتركيبات المجازية. فمن هو مغرم بقصائد أدونيس، أو السياب، أو محمد عفيفي مطر، لا أعتقد أنه ينسجم كثيراً مع شعر جويدة، ذلك أن الأخير يكاد يكون مدرسة وجدانية قائمة ذاتها، اتخذت لنفسها طريقاً بيّناً، وترسخت في الأذهان على هذا النحو، فهل ننسى مثلاً تلك الكلمات الوجدانية الرقيقة:«ولــــــو خــــــــــــــيّـــــــــرت فـــــــــــــــي وطـــــــــــن لقلت هواك أوطاني ولـــــــــــــــــــــــو أنســــــــــــــاك يـــــــــــــــــاعمــــــري حنايا القلب تنسانيإذا مـــــــــــــــــــا ضــــــــــعـــــــــت فــــــــــــي درب ففي عينيك عنواني»جاءت دواوين جويدة في طبعات متتالية تزيد على خمس أو سبع طبعات، ويكاد كل ديوان ينفد في السنة التي طبع فيها. وكان ينشر قصائده في الصحف وبعض المجلات الخليجية المنوعة. ومن هنا يأتي تأثير جويدة على وجدان كثير من القراء في حقبة الثمانينيات، ولم يتلوث الناس حينها بالتكنولوجيا، أو يبتعدوا كثيراً عن الرومانسية الحالمة.بالعودة إلى دار تهامة في مدينة جدة التي أهدت إلينا الأعمال الكاملة لجويدة نجد كتباً وإصدارات أخرى هامة تصدر عن هذه الدار، وفي الفترة ذاتها التي صدرت فيها أعمال جويدة. ففي الأسواق مثلاً الأعمال الشعرية للشاعر غازي القصيبي، وهي دواوين ذات أثر كبير في نفوس القراء، وتولت «تهامة» نشر وتوزيع هذه الأعمال. ومما قرأت واقتنيت من مدينة جدة أوائل التسعينيات إصدارات الشاعر السعودي الكبير حمزة شحاتة، فبالإضافة إلى قصائد هذا الشاعر نجد «تهامة» تقدم إلينا كتابين هامين له، هما «إلى ابنتي شيرين» وهي رسائل كتبها الشاعر إلى ابنته إبان وجوده في مصر، وكذلك كتاب «رفات عقل» المليء بالحكم والأقوال المأثورة. ونجد من إصدارات «تهامة» كذلك بعضاً من مؤلفات الأديب السعودي عزيز ضياء، وهو شخصية أدبية مؤثرة جداً في مدينة جدة السعودية، فكان إعلامياً، وشاعراً، وقاصاً، وكاتباً صحافياً ذا قلم مميز. شارك ضياء في الحياة الثقافية السعودية بفاعلية كبيرة (توفي 1997). وكتب مذكراته التي وجدت صدى كبيراً وقت صدورها.يضيق المقام إذا أردنا التطرق تفصيلاً إلى إصدارات «تهامة» المتعلقة بالأدباء السعوديين، ولكن يكفي أن ننظر إلى سلسلة «الكتاب العربي السعودي» الصادرة عن هذه الدار، وتزيد إصداراتها على المئة إصدار، من بينها معاجم لغوية، وقائمة لكتب الاعلام والأدب، وكذا الدواوين والمجموعات القصصية. استطاعت «تهامة» أن تؤثر بشكل فاعل في نشر الوعي الثقافي في المملكة العربية السعودية، وفي وقت مبكر نسبياً، حين لم يكن متاحاً للناس كثيراً الخروج من بيئة الكتاب الديني إلى فضاء الثقافة الرحيب.