إن صراع الثنائيات المتضادة، كما يؤكد علماء الاجتماع، أمر ضروري لتطور المجتمعات ورقيها... فالوقود الذي يحرك المجتمعات إلى الأمام هو ذلك التنازع بين جبهتين متضادتين: بين العقل والجهل، الحداثة والتقليد، المحافظة والتجديد، الحرية والاستبداد... ولكن ما يحصل لدينا هو صراع من نوع آخر، وهو صراع الجهل مع الجهل والهمجية مع الهمجية، اللذين يطغيان على ساحتنا السياسية، فالفساد الحكومي يتصارع مع الفساد البرلماني، والاستبداد الحكومي يتنازع مع الاستبداد البرلماني، والعنف الحكومي يتنافس مع العنف البرلماني، فالحكومة تضرب النواب والشعب بالهراوات، ونواب العصبية الجاهلية يضرب بعضهم بعضاً بالعقل، والحكومة مصابة بالفوبيا الطفولية إزاء المساءلة والمحاسبة، والمعارضة النيابية يهيمن عليها نوعان من الأطروحات، الأول شعبوي يسعى إلى استنزاف الوطن وإفلاسه، والآخر انغلاقي يعمل بجد واجتهاد على إحكام إغلاق أبواب ونوافذ الوطن، حتى تَسمم الهواء وازرقَّ لون الكائنات التي تعيش فيه من شدة الاختناق... العجيب أن طرفي الصراع يتحدثان باسم الدستور، فيخرج لنا الناطق العسكري القمعي للحكومة محذراً من ضيق صدر قوى الأمن للتجمع السلمي، بينما يتحدث نواب الأزمنة الغابرة عن الحريات التي وأدتها أيديهم، ليصفوا اليوم في جنازتها يتباكون عليها ويتقبلون عزاءها.

Ad

يستفحل هذا النوع من الصراع حين تغيب الثقافة الديمقراطية ويزيف الوعي ويضلل، فيتكالب صراع الجهل مع الجهل على قيم العقلانية والتنوير والإنسانية وحقوق الأقليات والتسامح والتفكير النقدي، وهي أهم قيم الثقافة الديمقراطية التي نختزلها جميعها في آلية الانتخاب... هكذا أصبحت ديمقراطيتنا كصحرائنا القاحلة الجدباء لا واحة فيها ولا نبع ولا ماء، فأهلك جفافها الزرع والضرع، وأصابها الضمور والتكلس والتيبس... فإعادة تأهيل تلك التربة الجافة يتطلب تبيئة الثقافة الديمقراطية في مؤسساتنا الاجتماعية والتربوية والمدنية التي تشربت الثقافة الرعوية والخضوع والطاعة، تلك الثقافة التي تعيد بذر الاستبداد في التربة غير الصالحة وغير المهيأة لإنتاج الديمقراطية، والتي تتجلى اليوم في رضوخ الأغلبية النيابية للحكومة في سعيها إلى تعطيل الدستور والعمل على إعطابه، فثقافة «الراعي والرعية» لا تستقيم مع ثقافة حقوق وواجبات المواطنة كركيزة أساسية للديمقراطية.

إن مجتمعاً يأخذ قشرة الديمقراطية ويرمي لبَّها في سلة المهملات هو مجتمع يقود نفسه إلى الهاوية... فبتفشي الأمية الديمقراطية تتوطن الأمراض الاجتماعية كالعنصرية والطائفية والعشائرية، لتأتي ديمقراطية المظهر لا الجوهر بألد أعداء الديمقراطية من الشوفينيين والعنصريين والطائفيين، فيَصل من خلالها مَن ليس أهلاً أو كفؤاً، ويعمل، بوعي أو غير وعي، على تدمير المجتمع وتهديد بقائه واستقراره.

إن الصراع اليوم يجب أن يتحول إلى صراع من أجل البقاء، بدلاً من هدر الأموال والطاقات، وحتما هدر الوطن في معارك الجهل مع الجهل والتدمير الذاتي... فالمعادلة بسيطة: لا استقرار سياسياً دون بناء ديمقراطية حقيقية تستطيع معالجة نفسها بنفسها، ولا ديمقراطية حقيقية دون تأسيس للثقافة الديمقراطية وتغيير للبنية العقلية والمؤسساتية في المجتمع... وهو أمر لا يحصل بين ليلة وضحاها، بل يتطلب وقتاً ورؤية وتمكيناً واقتداراً لصناعة المستقبل والمصير. المسؤولية الأخلاقية والوطنية اليوم تتطلب أن نسقي شجرة ديمقراطيتنا اليابسة الذابلة التي تتساقط أوراقها يوماً بعد يوم، حتى نبقى نتفيأ ظلها... فهل نستجيب لمتطلبات عصر «الربيع العربي»؟