هناك عبارات شائعة حتى كادت أن تتحول إلى ثقافة سائدة، مثل ما ينسب إلى عمرو بن العاص بأنه قد وصف مصر بأن «أرضها ذهب وناسها لمن غلب»، وعاد جمال حمدان ليؤكد نفس المعنى في رباعيته الشاملة «شخصية مصر» التي بذل فيها جهداً كبيراً لتحليل الشخصية المصرية عبر العصور.

Ad

بل إن صديقاً أكاديمياً من مصر العزيزة يؤكد لي دوماً فيقول إن الشعب المصري مشهور بطاعته للحاكم وقبوله للرئيس وعدم الاعتراض. بل إن العديد من أركان الحكومة الحالية في مصر قد استدلوا في أحاديثهم على الطبيعة اللينة السهلة للشخصية المصرية، التي لا يمكن أن تخرج على النظام أو تتحدى السلطة.

إن اعتبرنا أن التوصيف الذي ذكرناه أعلاه صحيحاً، فقد بات مؤكداً أن كل ذلك التراث المذكور قد انتهى في يوم 25 يناير 2011، وأن الشعب المصري الذي كان يوصف بتلك الصفات قبل 25 يناير قد أثبت خلل التحليل وضبابية الرؤية، وأن المتغيرات التي لم تكن ظاهرة، ولم تستطع أن ترصدها أجهزة المباحث المصرية أو الموساد أو الـ «سي أي أيه»، كانت أكبر من الخيال، فبات من الآن فصاعداً أن أي حكم قادم لن يتمكن من الهيمنة على مقدرات الشعب، فإن ساد الاستبداد، فإن الطريق أصبح معروفاً، إنه الطريق إلى ميدان التحرير.

على الرغم من المركزية الجغرافية لميدان التحرير، إلا أنه وعبر السنوات كان فاقداً للشخصية، فتارة يفتح للمارة، وأتذكر كيف بنى رئيس الوزراء عزيز صدقي سنة 1972 جسراً دائرياً للمشاة على الميدان ودعا وسائل الإعلام لترافقه وهو يمشي على الجسر، ثم تم هدم الجسر. أما الآن فقد استقرت الثورة في ميدان التحرير لتجعل منه رمزاً يطل بشموخ على أثر مبنى الحزب الوطني الديمقراطي الذي ظل يحترق دون أن تتحرك سيارة إطفاء واحدة لإطفائه حتى أصبح أثراً بعد عين.

لا يبدو أن هناك إمكانية لإيقاف الثورة المصرية الراقية، فهي قد فعلت فعلها، ولا يبدو أن هناك إمكانية لإيقاف مسيرتها سواء على ظهور الجمال والأحصنة أو بإخافة الناس ببعبع «الإخوان المسلمين» أو أن إيران ضالعة هنا أو هناك. من الصعب علينا قبول أن هذه الجموع الحاشدة في كل أرض مصر قد أخرجها تنظيم أو جماعة أو قوى غربية أو مندسة.

كذلك، فإنه لا يبدو مفهوماً حملة الاعتقالات بحق الصحافيين وعدد من ناشطي حقوق الإنسان، وعلى الأخص ما جرى في مركز هشام مبارك للقانون، حيث تم اعتقال أحمد سيف الإسلام حمد وخالد علي عمر ومصطفى الحسن ومحسن بشير ونادين أبوشادي وغيرهم، بالإضافة إلى سعيد حداد من منظمة العفو الدولية ودانييل وليامز من هيومان رايتس ووتش.

في فقرة من قصيدة طويلة للشاعر العراقي مظفر النواب يقول فيها:

«قدمي الملوية في الطبق

وقلبي بين عذوق النخل...

من يصل القلب الآن».

وأظن أن قلبي في هذه الأيام هناك في ميدان التحرير، حيث البلد الذي أحببناه وعشقناه، والشعب الجميل الذي خطَّ الطريق لثورة سلمية، وجعل الأرض لا تتكلم «عربي» فقط، ولكن «مصري» باقتدار.

نسأل الله الأمن والاستقرار والعدل والمساواة والحرية والديمقراطية للشعب المصري، وعسى أن تنتشر عدواها في العديد من الأنظمة العربية التي انتهت صلاحيتها التاريخية.