جرأة قتل بن لادن... لم تقترن بجرأة الحق!

نشر في 19-05-2011
آخر تحديث 19-05-2011 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري يصب مقتل بن لادن في خانة الانتخابات الرئاسية المقبلة... فقبل قتله كان الرئيس الأميركي يعاني انخفاضاً في شعبيته مما كان يثير شكوكاً في احتمال انتخابه لدورة رئاسية ثانية، وبعد إعلان مقتل بن لادن- الذي ظل حلماً للإدارة الأميركية طيلة عش ر سنوات- ارتفعت شعبية الرئيس إلى حد كبير، غير أن هذا الارتفاع في نسبة الشعبية ليس ضماناً مؤكداً، فالناس ينسون، والشعوب ضعيفة الذاكرة وتتأثر بمجريات حياتها اليومية، وإذا قيل إن أسبوعاً واحداً وقت طويل في السياسة، فكيف إذا كانت المسألة ستحسم في نوفمبر 2012 وهو موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية؟

وعلينا ألا ننسى أن الرئيس جورج بوش «الأب» كان يتمتع بنسبة تأييد بلغت 92% بعد تحرير دولة الكويت، لكن منافسه بيل كلينتون استطاع في النهاية أن يهزمه في الانتخابات الرئاسية شر هزيمة بطرح شعار: «إنه الاقتصاد... يا غبي!».

فالناس يتأثرون بمجريات حياتهم اليومية، والاقتصاد عنصر مهم وحيوي في تشكيل نظرتهم إلى الإدارة الحكومية، صحيح أن بن لادن يعتبر قضية «داخلية» بالنسبة إلى لأميركيين نظراً لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، ويعتمد إن استطاعت إدارة الرئيس أوباما إجهاض ضربات انتقامية رداً على مقتله، أو حصدت تلك الضربات المزيد من أرواح الأميركيين، مما يعني المزيد من الخسائر الانتخابية للرئيس. هذا أمر سيبقى معلقاً إلى نوفمبر 2012، وعلينا أن ننتظر لنرى. أما لماذا أحجمت الإدارة الأميركية، عن نشر صور بن لادن بعد مقتله بأمر الرئيس، فذلك من وجهة نظري يعود إلى أن الجنود الأميركيين المكلفين بتلك العملية لم يقتلوا بن لادن قتلاً عادياً إنما «قتلوه انتقاماً»، فقد كانوا «معبئين ضده»- وهم بشر- باعتباره قاتلاً لحوالي ثلاثة آلاف أميركي ومدمراً لرمز من رموز الازدهار الأميركي المهمة، ثم إنهم أرادوا التأكد من قتله، حسب الأوامر المعطاة إليهم، ويكفي أن تقتل إنساناً قتلاً عادياً إذا أصبته برصاصة واحدة في جزء حيوي من جسمه، ولكن «التأكد» من القتل يقتضي إطلاق النار مثنى وثلاث ورباع... إلخ.

ويلاحظ المتتبع للحادث أن «ارتباكاً» قد وقع بالنسبة إلى عملية نشر صور بن لادن بعد قتله، فقد نشرت المصادر الباكستانية صورة بشعة له، ثم سحبتها باعتبارها مزيفة- ويبدو أن ذلك قد حدث لضغط أميركي، فالأميركيون لا يريدون نشر صور يمكن أن تسبب لهم إحراجاً عالمياً وتثير انتقاماً يتحسبون له، ومن الأوصاف الكلامية لمقتل الرجل، فثمة حديث عن «تناثر» مخه من شدة الضربات، وتلك مناظر لا يريد الأميركيون أن يراها العالم والمسلمون.

أما إسراعهم إلى إلقاء الجثة في البحر «كي لا يراها أحد»؟ فمسألة خلافية، فيها قولان: وقد قالت مشيخة الأزهر إن ذلك غير جائز إسلامياً، وأنا لم أطلع على «حيثيات» هذه الفتوى، وإن كنت أهتم بأخذ رأي الأزهر الشريف في كل أمر ديني، لكني رأيت من التجربة أن المسافرين من أهل البحر- وأنا من بلاد كان أهلها أهل بحرٍ وغوص، فإن كانوا في خط تجاري بحري، قريبين من البر، فالواجب أن يوصلوا ميتهم إلى ذلك البر ويدفنوه هناك، بعد تأدية المراسم الإسلامية. أما إذا كانوا أهل غوص وباقون في البحر لشهور، فلا يستطيعون إبقاء جثة الميت معهم على ظهر السفينة، ولابد من رميها في البحر بعد الصلاة عليه.

وذلك من «العُرف» السائد بين الناس في بلدهم، وعندما تفتح أي مرجع في دراسة الفقه الإسلامي ترى «العُرف» معدوداً من أصول التشريع، إذا كان لا يتضمن تناقضاً مع الشريعة الإسلامية، ويمكن للفقيه أن يأخذ به ويحكم على أساسه، ويمكن القول إن «العُرف» من الأحكام المدنية التي لا تناقض الإسلام.

لكن الأميركيين الذين تعاملوا مع جثة بن لادن، بتلك الطريقة، لا يمكن النظر إلى سلوكهم من تلك الزاوية، فقد كانوا يريدون التخلص من الجثة، دون أن تصبح «مزاراً» في اليابسة، وهي مؤهلة لأن تكون كذلك لدى البعض، لذلك سارعوا إلى إلقائها في البحر، كما يقولون، ويبقى الحكم لله على هذا التصرف «السياسي» من الجانب الأميركي!

إلا أن الأهم من ذلك كله أن الجرأة الأميركية في قتل بن لادن، لم تصحبها جرأة في البحث عن سر «شعبيته» لدى قطاعات من العرب والمسلمين.

إن « كلمة السر» هي العداء للغرب بسبب عمله على إقامة إسرائيل، ثم دعمها عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً ودبلوماسياً، وسيبقى هذا العامل خلف حركات الاضطراب في الشرق الأوسط إلى أن يتم حل المشكلة الفلسطينية، صحيح أن بن لادن لم يفعل شيئاً يذكر لفلسطين، وإن «تكلم» عنها! ولكن «عداءه» للغرب كان هو الجانب الجاذب لتأييده من جانب بعض القطاعات في العالمين العربي والإسلامي. لقد ظل «الفيتو» الأميركي بمنزلة الجدار الدبلوماسي الذي يحمي عدوان إسرائيل ضد الفلسطينيين في كل الظروف، وينبغي عدم استبعاده عندما يذهب الفلسطينيون إلى مجلس الأمن بعد أشهر، إذا ضاقوا بالمماطلات الإسرائيلية. ومن مصادفات التاريخ أن الإنكليز قد «أفرجوا» عن وثائق حكمهم في فلسطين وغيرها بعد انقضاء الفترة اللازمة، وقد اتضح من تلك الوثائق أن مناحيم بيغين هو الذي فجر فندق الملك داود بمن فيه عام 1946، وهذه «المعلومة» كانت معروفة عربياً منذ زمان بعيد، لكن نشرها الآن في وثيقة بريطانية لا يستطيع أحد إنكارها، ولو حاول الليكوديون ذلك وهم سيحاولون، فبريطانيا دولة «مستعمرة»... وماذا ننتظر من «المستعمرين». إذن فمناحيم بيغين هو الذي أسس للإرهاب في الشرق الأوسط قبل ظهور بن لادن، وإن يكن مناحيم بيغين قد نال «جائزة نوبل» للسلام، مع أنور السادات، بعد توقيع اتفاقات «كامب ديفيد».

وأذكر أن مارتين إنديك، وهو استرالي «ليكودي» هاجر إلى أميركا، فتم منحه على عجل جنسيتها وتعيينه سفيراً لها في تل أبيب، قد حاول منعي شخصياً من ذكر الواقعة التي أكدتها الوثائق البريطانية بشأن بيغين في منتدى «أصيلة» المغربية، بحضور الأستاذين الكريمين: محسن العيني، رئيس وزراء اليمن الأسبق، والوزير محمد بن عيسى مؤسس «أصيلة» وراعيها، والأشقاء المغاربة كافة وغيرهم الذين كانوا حضوراً في تلك الندوة في «أصيلة» قبل سنوات.

ولا أدري كيف انتهى المطاف بمارتين إنديك، وحسب علمي، فقد أصبح «داعية سلام» وما هي «تحولاته» الراهنة!

وعلى ما عاناه العرب من إرهاب بيغين وسواه من مدرسته، فإن أغلبيتهم تقف اليوم خلف محمود عباس «أبو مازن» واتجاهه في الدعوة إلى سلام عادل وتعايش سمح في المنطقة على أساس مبادرة السلام العربية.

... هكذا فإن الأميركيين «قتلوا» بن لادن، لكنهم لم يتجرؤوا على الحديث عن «سر» شعبيته العربية والإسلامية.

«فمن يجرؤ على الكلام؟»... كما قال قائلهم!

* مفكر من البحرين

back to top