هل سبق لك أن شعرت بالمرارة، وربما الكراهية تجاه شخص ما، إلى الحد الذي صعُب عليك أن تفهم حتى كيف يمكن لك أن تصفح عنه أو تسامحه؟ لا أشك في ذلك، فلكل واحد منا في علاقاته مع الناس تجارب محزنة وأحياناً مؤلمة. يبلغ بعضها من الشدة أن يجعل صدر الواحد منا يشتعل ألماً وحرقة وغيظاً ممن أحزنوه أو آلموه، وقد يصل إلى حد كرههم، فيقرر أنه لن يصفح ولن يغفر لهم أبداً ما اقترفوه في حقه، والسبب في ذلك أننا نكون مدفوعين حينها بشعور أن «الجرم» الذي وقع علينا هو من الفداحة بحيث لا يستحق من اقترفه أن يُصفح عنه أبداً، فنصدر قراراً في دواخل أنفسنا بأننا لن نغفر لهذا «المجرم» أبداً، ولن نتوقف عن الشعور بالغضب تجاهه. لكننا في تلك اللحظة نكون نخلط بين شيئين مختلفين وللأسف، هما الصفح كشعور داخلي، والتنازل عن الحق كفعل خارجي.

Ad

إن الصفح عن الآخرين لا يعني أبداً أن نتنازل عن حقوقنا، وأن نقبل بالخطأ أو الضرر الذي وقع علينا، وإنما يعني وبكل بساطة أن نتخلص فقط من ذلك الشعور الخانق الذي يعترينا تجاه من أخطؤوا بحقنا، فنقرر لأجله ألّا نصفح عنهم أبداً.

عندما أغضب من «فلان» من الناس، لأني كنت أحسبه صديقي، مثلاً، فإذا به لم يقدرني فيدعوني لحفلته مثلاً، فالحقيقة أن ما سيحصل هو أن هذا الفلان غالبا لن يكون الشخص الذي «ستنفقع مرارته» غضباً مما حصل، ولن يكون هو الشخص الذي سيشعر بالحرقة في صدره ومعدته، بل سأكون أنا من يشتعل غيظاً وحنقاً ويختنق ضيقاً، وهكذا فإن إصراري على ألّا أتجاوز المسألة، على مستواها النفسي، لن يؤدي إلا إلى استمرار معاناتي من هذه المشاعر السيئة الثقيلة، والتي كلما أبقيتها في داخلي، ازدادت تركيزاً، والشعور بالكراهية، كما يقول المثل الغربي، كالقهوة، كلما ازدادت تركيزاً، زادت مرارتها.

لنبسط المسألة لتتضح أكثر، إن فلاناً هذا الذي أخطأ في حقي هو واحد من اثنين: إما أنه شخص لا يكترث لأمري فعلا، وحينها لن يشعر بشيء البتة بل لعله لن ينتبه للمسألة برمتها، وسيعيش حياته الطبيعية، يأكل هانئاً، سليم المرارة والمعدة، وسينام قرير العين، وإما أنه شخص مظلوم فعلاً، وأن ما حصل كان خطأ غير مقصود، فإن كان هو الأول، فهذا شخص لا يستحق أن أغضب منه ولا يستحق أن أتجرع مرارة كل هذا الألم لأجله، وإن كان هو الثاني، فهذا يستحق في النهاية أن أصفح عنه وأسامحه.

وبطبيعة الحال، فإن ما أقوله هنا لا يعني أن تتبلد مشاعر الإنسان، فيصبح كلوح من رخام، لا يتأثر بما يدور حوله، وإنما المقصود هو أن ينظر إلى هذه الآلام التي تلم به من زاوية أخرى، وألّا يسمح لنفسه بالاستغراق في تجرع مرارتها، وإنما أن يعمل على تجاوزها بأسرع ما يمكن، بعد أن يكون قد استقى درسه منها، والمهم أن يتذكر أن كل ألم يمر به في حياته، هو الوجه الأول من عملة، وجهها الآخر هو الخبرة والحكمة والمعرفة التي يجب أن يكون قد اكتسبها من هذه التجربة، وهنا، وهذه هي المفارقة الجوهرية، سيستحق هذا الألم، وبعد أن يتجاوزه أن يشكر الله عليه لأنه جعل منه شخصاً أفضل!

يقول الدكتور فريدريك لاسكين، صاحب كتاب «سامح للأبد»، إن الدراسات أظهرت أن الناس الذين يرفضون الصفح عن الآخرين هم الأكثر تعرضاً لاضطرابات النوم وانعدام الشهية وضمور الطاقة الحيوية، وأنهم الأكثر تعرضاً للأمراض، لذا هل ترون هذه الحقيقة المضحكة، وهي أننا وعندما نغضب من الآخرين ونرفض أن نصفح عنهم، فإننا في الواقع نحرق أنفسنا نفسياً وجسدياً أكثر بكثير مما قد نفعله بهم، وكفى بالإنسان حماقة أن يفعل ذلك!