دقت ساعة الزحف... إلى الأمام... ثورة
لا نتكلم عن الدكتاتور الذي جثم على صدر شعبه إلا حين يدنو زواله، وفي كثير من الأحيان ليس بمقدور أحدنا أن ينبس عنه ببنت شفة، لاسيما إذا كان من «الدول الصديقة»، لأن قانون المطبوعات والنشر «غير الديمقراطي» هو سيف مصلت على رقاب الأقلام، ومن سخرية القدر أن يصدر هذا القانون من ممثلي الأمة ومدعي الديمقراطية. لا تزال مخلفات العالم القديم في الزمن الغابر قابعة في شرقنا، ذلك العالم الذي اندحر واندثر وتحطمت أصنامه منذ دهر في العالم الحداثي الجديد... وها هي أصنام التاريخ تحطمها إرادة الشعوب بعد أن وقف بنا التاريخ حينا من الدهر حين عبدنا أصنامنا وعجزنا عن تحطيمها، وقد آن اليوم لثورات الشعوب أن تنهي حقبة الانقلابات العسكرية وتسير بتاريخها إلى الأمام نحو العالم الجديد.
اليوم هو دور «الأخ العقيد القائد عميد الحكام العرب ملك ملوك إفريقيا وإمام المؤمنين» الذي أعلن في 1977 تبنيه أول نظام سياسي «للجماهيرية» بعد مفهوم الجمهورية، التي صاغها في كتابه «الكتاب الأخضر»، حيث جاء بنظرية وسط بين الرأسمالية والماركسية، لتكمل نواقص الأولى وعيوب الثانية، وهي «النظرية العالمية الثالثة» التي يصفها بـ»خلاصة التجارب الإنسانية»! فقال عن كتابه المقدس إنه «يشبه بشارة عيسى, أو ألواح موسى، الذي كتبته داخل خيمتي التي يعرفها العالم, بعد أن هجمت عليها 170 طائرة, وقصفتها, بقصد حرق مسودة كتابي, التي هي بخط يدي».يعلن العقيد معمر القذافي أنه تخلى عن رئاسة قيادة الثورة، وقام بتسليم السلطة والثروة والسلاح للشعب منذ عام 1977، حين أسس النظام الجماهيري للديمقراطية المباشرة التي يرأس ويحكم فيها الشعب نفسه بنفسه دون الحاجة إلى وسيط كرئيس أو نواب أو أحزاب، من خلال المؤتمرات واللجان الشعبية، لذلك ليبيا في رأيه هي الديمقراطية الحقيقية الوحيدة في العالم، وما دونها مزيف وكاذب لأنه «لا نيابة عن الشعب والتمثيل تدجيل»! لقد دخل العقيد التاريخ من أوسع أبوابه بقدرته على إضحاك الناس ونوادره التي لم يسبق لها مثيل، ولكن كما يقال بعض الضحك بكاء، فحكم ذلك البهلوان الأوتوقراطي النرجسي، جلب الدمار والخراب منذ انقلابه العسكري على عائلة السنوسي في 1969، حين صفى خصومه وتخلص من معارضيه، وحارب المثقفين وطرد الآلاف من بيوتهم، وأسكن فيها الموالين بعد إصداره قانوناً يقر بأن «البيت لساكنه»، كما بدد ثروات شعبه في مغامراته الفاشلة كمشروع «النهر العظيم»، والبرنامج النووي الذي كلف بلاده أموالاً طائلة ليتخلى عنه في النهاية، حين خاف أن يكون مصيره كمصير الطاغية صدام حسين. كما أنهك اقتصاد بلده بدفعه عشرة مليارات دولار تعويضاً لضحايا تفجير الطائرة الأميركية في لوكربي في 1988. لم تكن مغامراته محلية فحسب بل أممية كذلك، فهو زعيم أممي كما يصف نفسه، فدعم ثورات ومول عمليات إرهابية عدة وتورط في الاحتقان الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا، كما رحَّل المقيمين الفلسطينيين من بلاده أثناء انتفاضة الأقصى عام 2000، مبرراً ذلك بسعيه لاجبار العدو الصهيوني على إدخالهم لبلادهم! أما الجريمة الإنسانية التي سكت عنها العالم العربي والإسلامي فهي مجزرة سجن أبوسليم في 1996، حيث رُمي بالرصاص أكثر من 1200 سجين سياسي حين احتجوا على أوضاع سجنهم.وها هو إجرام العقيد وعائلته اليوم يتجلى بأبشع صوره في الإبادة الجماعية والمجازر التي قَتل بها المتظاهرين بالقصف العشوائي من الطائرات. القذافي لا يستوعب مطالب شعبه بالتنحي، فهو ليس بحاكم كما يقول، ومطالباتهم له بالتنحي في نظره تعني أن يتنحى الشعب الذي يحكم نفسه بنفسه بأكمله! الحقيقة التي يجهلها الكثير من طغاة اليوم السابقين واللاحقين أن الأنظمة الفاشية والأوتوقراطية والعشائرية والاقطاعية كما يعلمنا التاريخ هي أنظمة تحمل بذور فنائها في أحشائها.• هالنا منظر الأشلاء الممزقة لإخواننا البحرينيين، التي لم يهتز لها ساكن الكثير من دعاة التنوير ومدعي الحيادية من الكتاب والمثقفين والقنوات الفضائية وأجهزة الإعلام، وهي تمارس التعتيم وذات الأكاذيب التي كانت تروجها أنظمة الحكم التي سقطت كالعمالة والأجندات الخارجية، بينما المطالبات كانت واضحة: المساواة المواطنية... فتجزأت المبادئ وسقطت الأقنعة.