بعد زوال رومانسية الثورة!
أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية, الذي انتهت إليه مسؤولية الحكم بعد رحيل الرئيس السابق حسني مبارك, قبل أيام قانوناً وُضع على الفور موضع التنفيذ يجرِّم أي اعتصام أو تجمع أو تظاهرة تسيء للمصالح الشخصية للناس وللمصالح العامة للدولة، وهذا في حقيقة الأمر كان يجب أن يأتي مبكراً، وقبل أن تتفاقم الأمور وتدخل مصر في مرحلة من أصعب المراحل التي مرَّت بها على مدى تاريخها الحديث كله.لا يجوز التشكيك في هذه الثورة المصرية التي ستُسجَّلُ على أنها أحد شواهد القرن الحادي والعشرين، كما أن الثورة البلشفية كانت أحد شواهد القرن العشرين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثورة الخمينية في إيران، كما أنه لا يجوز إنكار وطنية الشبان الذين قاموا بهذه الثورة، لكن ما لا يجوز إهماله أيضاً هو أن ظاهرة ميدان التحرير التي هزت المنطقة العربية وهزَّت العالم بأسره قد تحولت إلى عبء على مصر وعلى الشعب المصري، والسبب هو أن ما جرى كان حركة عفوية لم يتم التخطيط لها مسبقاً، لا من قِبَل حزب واحد له تصوراته ومنطلقاته السياسية والاقتصادية، ولا من قبل ائتلاف جبهوي التقى على الحدود الدنيا العريضة التي تجمع الجميع.
كان الخميني قد خطط لثورته على مدى ثلاثة عشر عاماً عاشها في النجف الأشرف في العراق، وكان لينين قد خطط للثورة البلشفية خلال وجوده في المنفى قبل عودته في عربة قطار ألماني مصفحة بعد انفجار هذه الثورة، وكان ماوتس تونغ قد خطط للثورة الثقافية الشبابية التي أطلقها في عام 1965 نحو الأرياف الصينية، والتي كانت نتائجها بمنزلة كارثة محققة اقتصادياً وسياسياً وبالنسبة لكل شيء، والثورة الوحيدة التي اندلعت عفوية وبدون تخطيط هي الثورة الشبابية التي بدأت في باريس في عام 1968 وانتقلت لتعم أوروبا (الغربية) كلها، والتي انتهت بدون أي إنجاز اللهم إلا إشاعة الفوضى الجنسية.منذ اليوم الأول, وبخاصة قبل أن تتحرك القوات المسلحة لتُمسك بمقاليد الأمور, كان الواضح أن ظاهرة ميدان التحرير ستتحول إلى فوضى وإلى فلتان أمني وإلى «بلْطجة» ضد المواطنين والتعدي على أموالهم وأملاكهم، والسبب أن مجموعات الشباب التي فجرت هذه الثورة ليس لديها إلا الاندفاع الوطني والعاطفة الصادقة، وأنه لا يوجد لهؤلاء مرجعية بالغة وراشدة وعاقلة، أو تصور مسبق يقضي بالانتقال وبسرعة من حالة «الفوضى الخلاقة» إلى حالة الاستقرار واستتباب الأمن وعودة المواطنين لمزاولة أعمالهم وحياتهم العادية وفقاً للقوانين النافذة، وبدون أن يأخذ أيٌّ كان القوانين بيده أو أن يطبق قوانينه الخاصة.وبصراحة فالنتيجة أن مصر أصبحت تعيش أوضاعاً أمنية صعبة، وأنها اقتصادياً اقتربت من حالة الانهيار، وأن بعض «البلطجية» والزعران باسم هذه الثورة التي لا هُمْ منها ولا هي منهم قد أصبحوا يعيثون في البلاد فساداً، مما أدى إلى أن كثيرين باتوا «يترحمون» على فترة حكم مبارك لأن الناس قد يستمتعون بـ»رومانسية» الثورة بعض الوقت، لكنهم في النهاية يريدون الأمن والخبز، ويريدون استقرار الأمور ومزاولة حياتهم العادية وذهاب أبنائهم إلى المدارس بدون منغصات ولا كوابيس.