يحث الأميركيون عباس بفعالية على العودة إلى طاولة المفاوضات بينما يصعّبون عليه الوصول إلى هناك، لذلك تُصنّف هذه المشكلة الدبلوماسية من المشاكل «العلاجية المنشأ»، التسمية التي يطلقها المجتمع الطبي على الأمراض التي يتسبب بها الأطباء بحد ذاتهم.

Ad

لم ينته العالم... عُلّقت مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين يوم الأحد، ربما لفترة وجيزة وربما لأشهر، بعد أن انتهى مفعول القرار الإسرائيلي بتجميد بناء المستوطنات لمدة عشرة أشهر، وكان المسؤولون الفلسطينيون قد حذّروا من أنهم سيوقفون المحادثات إن استؤنفت عمليات البناء، وبالفعل نفّذوا وعيدهم، لكن الحرب لم ولن تندلع.

اندلعت موجة من الأعمال الإرهابية بعد انهيار محادثات «كامب ديفيد» في عام 2000 لأن القائد الفلسطيني آنذاك، ياسر عرفات، دعمها. لكن لحسن الحظ، ولّت هذه الأيام. قال رئيس الوزراء الفلسطيني الراهن، سلام فياض، للقادة اليهود في نيويورك الأسبوع الماضي إن العنف «يجب استبعاده من المعادلة إلى الأبد بغض النظر عن المسار الذي تتخذه عملية السلام».

كذلك ذكّر الرئيس الفلسطيني شعبه الأسبوع الماضي أيضاً بأننا «جربنا الانتفاضة، لكنها ألحقت ضرراً جسيماً بنا». في المقابل، تستطيع حركة «حماس» التي تحكم قطاع غزة شن هجمات إرهابية في أي وقت، لكن في ظل تعاون المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين في الحفاظ على السلم، تعجز «حماس» عن إثارة انتفاضة عامة.

يُذكَر أن مفاوضات السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية تجري بشكل متقطع منذ اتفاقية أوسلو في عام 1993. في عهد عرفات، كانت المحادثات والعمليات الإرهابية تجري بالتناوب لكونها معاً تكتيكات مفيدة وشرعية في نظره، لكن بعد الانتفاضة الثانية في عام 2000-2001 وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، نفد صبر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، آرييل شارون، من تلك اللعبة، كما نفد صبر جورج بوش الابن، لذلك عملا منذ ذلك الحين على تجاهله.

بعد وفاة عرفات في نوفمبر 2004، استؤنفَت المفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بشكل شبه متواصل حتى عام 2009، لكنها انهارت حين ركزت إدارة أوباما اهتمامها على مسألة بناء المستوطنات، مشيرةً إلى ضرورة وقفها لمواصلة محادثات السلام. من جهته، لم يستطع عباس، الذي يرأس السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، السماح لأوباما بأخذ موقف أشد صرامةً من موقفه، لذا كرّر ذلك المطلب.

مع ذلك، من غير الواضح لمَ شعر أوباما بضرورة إثارة هذه المسألة، مع أنها استُبعدت بنجاح خلال سنوات كلينتون وبوش. شهدت المستوطنات نمواً ثابتاً في تسعينيات القرن الماضي بالرغم من توقيع اتفاقية أوسلو. وفي عهد بوش، تم التوصل إلى تسوية يحصر بموجبها الإسرائيليون عمليات البناء داخل المستوطنات، من دون توسيعها فعلياً. لكن إدارة أوباما طرحت هذه التسوية جانباً، واضعةً عباس في موقف حرج بسبب هوسها المستمر بتجميد المستوطنات، إذ أتى أوباما على ذكر هذه المسألة مجدداً في الأمم المتحدة الأسبوع الماضي. في هذا الإطار، يحث الأميركيون عباس بفعالية على العودة إلى طاولة المفاوضات بينما يصعّبون عليه الوصول إلى هناك. لذلك تُصنّف هذه المشكلة الدبلوماسية من المشاكل «العلاجية المنشأ»، التسمية التي يطلقها المجتمع الطبي على الأمراض التي يتسبب بها الأطباء بحد ذاتهم.

في مواجهة هذا الوضع، قرر عباس مجدداً الاستنجاد بالجامعة العربية. فحين يجتمع وزراء الخارجية العرب في الرابع من أكتوبر الجاري، سيسعى إلى الحصول على دعم الجامعة السري والعلني إما لاستمراره في رفض المحادثات وإما لعودته إلى طاولة المفاوضات.

وهنا يكمن دور الإدارة الأميركية التي يجب أن تمارس نفوذها عبر حمل العرب على منح عباس الضوء الأخضر. في ما يتعلق بالإسرائيليين، يحاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إيجاد حل وسط. لن يمدد قرار التجميد، لكنه طلب من المستوطنين «ضبط النفس والتصرف بشكل مسؤول». يشير ذلك على ما يبدو إلى أن عمليات البناء، وما تحظى به من ترويج، يجب أن تكون محدودة.

مع ذلك، ثمّة ما يدعو إلى السرور، بينما تتصدر مسألة المستوطنات العناوين الرئيسة وتثير حماسة الدبلوماسيين، ويشهد العالم الحقيقي بوادر تقدّم. أفاد البنك الدولي الشهر الفائت بأنه «في حال حافظت السلطة الفلسطينية على أدائها الراهن في بناء المستوطنات وتوفير الخدمات العامة، ستكون مؤهلة لإنشاء دولة في أي مرحلة في المستقبل القريب». بحسب البنك الدولي، سينمو اقتصاد الضفة الغربية بنسبة 8% هذا العام. في الوقت عينه، تتخطى العائدات الضريبية الهدف المحدد لها بـ15% وهي أعلى بـ50% مما كانت عليه في العام الماضي في المرحلة عينها.

على الصعيد الأمني، لم يكن التعاون بين القوات الإسرائيلية وقوات السلطة الفلسطينية يوماً بأفضل مما هو عليه اليوم. أقرت مجموعة الأزمات الدولية الشهر الفائت بأنه «خلال الأعوام المنصرمة، أعادت السلطة الفلسطينية إلى حد كبير إحلال النظام وجددت الشعور بالأمان الشخصي في الضفة الغربية، أمر لم يكن ممكناً خلال الانتفاضة الثانية. لم تعد الميليشيات تجوب الشوارع، وانتشرت مجدداً قوّات الأمن بزيّها الموحّد، بينما يشعر الفلسطينيون عموماً على ما يبدو بالرضا، وحتى إسرائيل، التي يحق لها التشاؤم وبالرغم من الهجمات الأخيرة على مستوطني الضفة الغربية، تبدو متفائلة».

لا شك أن البوادر الإيجابية هذه بمعظمها تحققت خلال عام ونصف في وقت لم تكن تجري فيه أي مفاوضات. لذلك لن يكون تعليق المحادثات في الأسبوع الماضي خطيراً إلا إن تعارض مع هذا التقدّم الملحوظ. في المقابل، يجب أن تُبنى أي دولة فلسطينية على الأرض في الضفة الغربية، وليس على طاولة مؤتمرات في أوسلو، أو كامب ديفيد، أو أنابوليس.

لكل من الطرفين نيّة بالتفاوض وعاجلاً أم آجلاً سينجحان في العودة إلى طاولة المفاوضات، لكن سيسهل على الإسرائيليين والفلسطينيين التوصل إلى تسويات إن تحلى المسؤولون الأميركيون بالبراغماتية وكفوا عن ذكر مسألة التجميد في جميع خطاباتهم.

من جهته، يستطيع نتنياهو بذل جهد أكبر لتحسين الظروف في الضفة الغربية عبر إزالة نقاط التفتيش الإضافية التي تقيّد حركة الفلسطينيين أكثر مما تساعد في الحفاظ على أمن الإسرائيليين. أما عباس فبإمكانه الحصول على موافقة الجامعة العربية لاستئناف المحادثات، حتى لو «لفترة موقتة» أو «بشكل مشروط» في البداية. فضلاً عن ذلك، يستطيع كلا الطرفين الاتفاق على فرض بعض القيود على عمليات البناء. في الوقت عينه، على كل طرف أن يشرح للآخر بأن هناك قضايا أخرى مهمة مطروحة على الطاولة كاللاجئين، والحدود، والأمن، وأنه يريد البحث فيها.

سيتحقق ذلك في النهاية، حين لا تعود مسألة المستوطنات تشكل هاجساً بالنسبة إلى كبار المسؤولين الأميركيين.

* إليوت أبرامز | Elliott Abrams ، أستاذ بارز في دراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية، تولى شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي من 2001 إلى 2009.